المسألة الثالثة والأربعون: هل يثيب الله عباده على ما أجبروا عليه؟
ثم قال تغليظاً لمن كان معه على رأيه من أهل الجهالة، وذوي الحيرة والتكمه والضلالة: نسأل من أثبت في الخلق الاستطاعة، فيقال لهم: هل يثيب الله خلقه على ما عملوا من الطاعة، مما لم يجعل لهم السبيل إلى تركه؟ (ثم قال): وهل يعاقبهم على ما عملوا به من معصيته؟
فبيَّن بهذه الكلمات الآخرات في المعصية - على ما تكلم به في كلمات الطاعة - من فظيع ما جاء به من الكفر في قوله، والتظليم لله ربه. وبين جهله لتباعه دون غيرهم ممن هو على خلاف رأيه ورأيهم، حين يقول: هل يثيب الله خلقه على ما عملوا به من الطاعة مما لم يجعل لهم السبيل إلى تركه؟ ثم قال: وهل يعاقبهم على ما عملوا به من المعصية؟ فبين مسألته الثانية في المعصية، ولم يتمها، كما أتم المسألة في الطاعة، خوفاً من أن يشهد وينطق على نفسه بالكفر والفضيحة، وذلك أنه كان يجب عليه أن يتم الثانية كما أتم الأولى، فيقول: وهل يعاقبهم على ما عملوا به من معصيته مما لم يجعل لهم السبيل إلى تركه؟ ولو كان ذلك في الله سبحانه كذلك لكان الله سبحانه المدخل للعاصين في المعصية، المكره لهمعليها، ولو كان ذلك كذلك تعالى الله عن ذلك لم يكن في الخلق لله عاص، بل كان كلهم في أمر الله نافذاً ماضياً، ولم يكن إبليس عند الله بمذموم، ولا محمد صلى الله عليه وآله بمحمود، ولم تكن الملائكة المقربون بأحمد عند الله من مردة الشياطين، إذ كل لا سبيل له إلى غير ما يفعل، ولا حيلة له من العمل في غير ما يعمل، لِحتم الله وقضائه بذلك عليهم، وإدخالهم بقضائه فيه، وحملهم وجبرهم وقسرهم عليه، فتعالى الله عما يشركون، وتقدس عما يقول المبطلون.(1/583)
(تمت مسائل الحسن بن محمد بن الحنفية في تثبيت الجبر والتشبيه والإلحادورد الهادي إلى الحق - أمير المؤمنين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام - عليه، ونفى ذلك عن الله سبحانه، وإثبات العدل والتوحيد، وتصديق الوعد والوعيد)، (والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين وسلم)(1/584)
باب إثبات النبوة
سألت أكرمك الله فقلت: إن سألني ذمي عن إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أين ثبتت؟ فقلتَ: ما أقوله له؟
الجواب في ذلك أن يقال له: ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحت من حيث ثبتت نبوة موسى وعيسى صلوات الله عليهما، والذي ثبتت به نبوتهما في بني إسرائيل ووجبت طاعتهما فيه ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء سواء.
فإن قال: وما ذلك الذي ثبتت به نبوتهم؟
قيل له: هي المعجزات التي أتوا بها، والآيات التي أظهروها، التي لا ينالها مخلوق، ولا تكون إلا من الخالق، ومعجزات كل واحد منهم معروفة عند أهل العلم، وقد شرحنا ذلك في مسائل ابني أبي القاسم التي في إثبات النبوة والوصية والإمامة. والجواب في مسئلتك هذه للمسلم والذمي سواء.
ويقال: إن كانت معجزات موسى وعيسى أثبتت نبوتهما على أممهما، فقد أثبتت نبوة محمد معجزاته على جميع الخلق، وإن لم تكن معجزاتهما أثبتت نبوتهما عندك، فأخبرنا بما ثبتت نبوتهما مما هو غير ذلك، حتى نأتيك في محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحجج تقطعك وتقمعك. فلا تجد بداً إن شاء الله أن تقول: إن المعجزات من الآيات هنّ اللواتي يثبتن ويصححن النبوة، ويقمن لله ولرسوله الحجة على الأمة. فإذا أقر بنبوة محمد لثبات الحجة عليه ووضوحها لديه ولزومها له، إذ إقراره بها يثبت نبوة نبيه، ومكابرته فيها وقوله بالدفع لها تبطل قوله في نبيه قيل له: اتق الله وأجب محمداً داعياً إلى الله ورسوله إليك وإلينا.
فإن قال: قد أثبتم علي الحجة بما لم أقدر أن أدفعه في إثبات نبوته إلا أن أدفع نبوة نبيي فقد أقررت لكم بنبوته حين اضطررت إلى ذلك، فهو نبيكم ورسولكم وليس إلينا برسول.
قيل له: بل هو رسول إليك وإلى آبائك من قبل بإقرارك لا بإنكارك، فقد أقررت بذلك ولزمك من حيث ثبتت عليك الحجة في الإقرار بنبوته، وإن كنت لم تعقل ذلك ولم تفهمه ولم يحط به عقلك فتعلمه.(1/585)
فإن قال: ومن أين حكمت عليّ بذلك، وجعلتني في الحكم كذلك؟ أبن لي بذلك قولاً صواباً، وأزح لي به شكاً في قلبي وارتياباً.
قيل له: ألست قد أقررت بأنه رسول الله ونبيه؟
فلا تجد بداً أن تقول: نعم.
فيقال له: هل يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم أن تأتي بشيء من أنفسها ثم تزعم أنه من الله دونها، وفي ذلك ما لا يخفى عليك من الكذب على الله، وحاشا لرسل الله صلوات الله عليهم من ذلك.
فلا يجد بداً من أن يقول: لا يجوز ذلك في الأنبياء صلوات الله عليهم والرسل.
فإذا قال ذلك قيل له: أفليس القرآن الذي جاء به محمد من الله، وذكر أنه من الله هو من الله.
فلا يجد بداً أن يقول: نعم هو قرآن بعث به إليكم دوننا.
فإذا قال ذلك، قيل: قد أقررت بنبوته صلى الله عليه وآله، وأقررت بالكتاب الذي جاء به أنه حق من الله، فقد وجدنا في هذا الكتاب تصديق إرسال محمد إليكم.
فإن قال: وأين ذلك؟(1/586)
قيل له: هو قول الله سبحانه: ?إنا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً?[الفتح: 8 - 9]، وقوله: ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ?[الأعراف: 158]، ويقول: ?آمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ?[البقرة: 41]. فكل هذا القول الذي في الكتاب الذي لم تجد بداً أن تقر به أنه من عند الله، فإن بطل منه حرف بطل كله، وإن ثبت أنه من الله ثبت كله، ووجب عليك ما أمرك الله به فيه، ولزمك الإيمان به والتصديق، إذ قد أقررت بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يجد حينئذ الذمي بداً أن ينصف فيقر بالحق، أو يكابر بعد ثبات الحق وبيانه، فيستدل بمكابرته على جهله وحمقه، ويستغنى بظهور جهله عن مناظرته؛ لأن الجاهل المكابر محيل، وصاحب المحال لا حجة معه.
وله أيضاً عليه السلام:(1/587)