المسألة الثانية والأربعون: هل كلف الله الملائكة؟
وأما ما سأل عنه من قوله، وكذبه على ملائكة ربه، فقال: خبرونا عن الاستطاعة التي تزعمون أن الله جل ثناؤه جعلها في عباده حجة عليهم، وأنها مركبة فيهم ليعملوا أو يتركوا، هل جعلها في الملائكة المقربين؟ أم لا؟ ثم قال: فإن قالوا: نعم قد جعلها فيهم، وامتن بها عليهم، فقولوا لهم: فأنتم إذا لا تدرون عن الملائكة هل بلغت؟! أم لا؟ أم هل أدت ما أمرت بأدائه؟ أم هل قصرت في شيء مما أمرت به؟ إذ تزعمون أنها قادرة على ما تهوى، تاركة لما تشاء.
[جوابها](1/578)
فقولنا في ذلك: إن الله سبحانه ركب الاستطاعة في عباده وجعلها في جميع خلقه المأمورين المميزين، ومنهم الملائكة المقربون صلوات الله عليهم. ثم أمرهم ونهاهم من بعد أن أوجد فيهم ما أوجده سبحانه في غيرهم من الاستطاعة الكاملة، والنعمة الشاملة، وأمرهم ونهاهم، ولولا ما ركب فيهم من الاستطاعة لما جرى أمره عليهم، من ذلك قوله: ?وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ?[البقرة:34]، فأمرهم بالسجود من أجله، ولما رأوا ما ابتدع من جليل صنعه، ولعظيم ما فيه من قدرته، إذ خلقه من طين من صلصال من حمأ مسنون. والمسنون فهو ما داخله الأجُون فأسِنَ لذلك وأجن وتغير، فصار لما فيه من الأجون حمأ، كما ذكر الله مسنوناً، ثم صوره رجلاً، ثم نفخ فيه الروح، فصار جسماً متكلماً، لحماً وعروقاً وعظاماً ودماً، يُقبل ويدبر، ويورد ويصدر، بعد أن كان طيناً لازباً. فسجد الملائكة - عليهم السلام - لله المهيمن ذي الإنعام من أجل ما أحدث في آدم صلى الله عليه من الخلق وجعله أباً لكل الخلق. فكانوا بائتمارهم في ذلك لله مطيعين، وعليه مثابين، ولأمر الله مؤدين. ولو لم يكن فيهم استطاعة، ولا ما يقدرون به على السجود من الآلة، لم يأمرهم سبحانه بما لا يستطيعون، ولم يكلفهم العدل الجواد ما لا يطيقون؛ لأنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وأعدل العادلين. وليس ما ذكر المبطلون، وقال به الضالون من صفات الرحيم، ولا من أفعال العزيز العليم؛ لأن من أمر مأموراً بأن يفعل مفعولاً لا يقدر على فعله، كان بلا شك ظالماً له في أمره، وكان قد كلفه في ذلك محالاً، وكان له بذلك غاشماً ظالماً، وليس الله بظلام للعبيد، كما قال في ذلك ذو الجلال الحميد: ?وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ?[فصلت:46]، وقال سبحانه: ?وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا?[الكهف:49]، فيا سبحان الله!! ما أجهل من نسب ورضي لربه ما لا يرضاه وما لا ينسبه إلى نفسه من تكليف العباد ما لا يطاق،(1/579)
ثم رضي ذلك ونسبه إلى الواحد الخلاق، فكان كما قال الله جل جلاله، وتقدست أسماؤه: ?وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ?[الزخرف:17]، فأخبر سبحانه أنهم كانوا ينسبون إلى الله اتخاذ البنات، ولا يرضون بهن لأنفسهم، ولا يحبون الإناث، بل إذا رزق أحدهم بما رضيه لربه بانت الكراهية منه في وجهه؛ فشابهوهم في فعلهم، واحتذوا في ذلك بقولهم، فقالوا: إن الله يكلف عباده ما لا يطيقون فعله، ويعاقبهم على ترك ما لم يقدرهم على صنعه، وهم ينفونه عن أنفسهم، ويبرءون منه أخس عبيدهم، فسبحان من أمهلهم، وتفضل بالإنظار لهم.
ثم قال: ما يدريكم أن الملائكة مستطيعون، لما يشاءون من الأعمال متخيرون، وعلى العمل والترك قادرون؟ لعلهم قد تركوا بعض ما به أمروا، وقصروا في أداء بعض الوحي، وفرطوا في نصر النبي والمؤمنين، وفي غير ذلك مما أمرهم به رب العالمين.(1/580)
فقولنا في ذلك له: إنا علمنا براءتهم صلوات الله عليهم وإنفاذهم لكل ما أمرهم به ربهم على ما أمرهم به، غير مفرطين في شيء منه؛ لقوله فيهم سبحانه، وثنائه بما أنثى عليهم من ترك التفريط في أمره والاستقصاء في كل إرادته، والتقديس له والتسبيح الليل والنهار، وذلك فقول الواحد الجبار: ?لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ?[الأنبياء:20]، وفي ترك التفريط فيما أمرهم به رب العالمين، ما يقول سبحانه في القرآن المبين: ?حَتَّىَ إذا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ?[الأنعام:61]، ويقول تبارك وتعالى فيهم، ويثني بما يعلم من أفعالهم عليهم، حين يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ?[التحريم:6]، وفي ذلك ما يقول سبحانه، ويحكي عن المبطلين بما قالوا في الله رب العالمين، حين يقول: ?وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ?[الأنبياء:26]، فوجدناه تبارك وتعالى يذكر الاجتهاد منهم له عنهم، فقلنا فيهم بما قاله ربنا وربهم، فتعالى أصدق الصادقين عن مقالة الفسقة الجاهلين.(1/581)
ومن الدليل على معرفة حقائقهم والوقوف على محض فعلهم واجتهادهم، تولي الله لهم ومعاداته لمن عاداهم. ألا تسمع كيف يقول الواحد ذو الجلال والطول: ?مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فإن اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ?[البقرة:98]، فذكر سبحانه وجل عن كل شأن شأنه أنه عدو لمن عاداهم، وإذا صحت العداوة والمقاضاة منه لمن ناضاهم فقد ثبتت منه الولاية بلا شك لمن والاهم، ألا تسمع كيف جعل من عاداهم فاجراً؟ وسماه في واضح التنزيل كافراً؟ حين يقول في آخر الآية جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: ?فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ?، ولن يوالي أبداً من كان في أمره مقصراً، ولن يشهد بالوفاء لمن كان عنده سبحانه غادراً، فبهذا ومثله من تنزيله مما قد ذكره وبينه في وحيه وقيله، شهدنا للملائكة المقربين بالاجتهاد في الطاعة لرب العالمين.(1/582)