فردنا عليه فيما يقول، أنَّا نقول: الحمد لله على ما رزقنا من العقول، والفهم بما نقول، فيا ويح الحسن بن محمد! الجاهل المجبر في أمره الغافل، بينا يقول: إن الله يجبر العباد على الطاعة له والانقياد؛ إذ رجع فصرف ذلك إلى الرسول، فيا ويح ذي الجهل! من نازعه في ذلك؟ (أو من ذا الذي لم يكن من أضداده قوله لذلك). ألا يسمع قول الله سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه فيمن أكرهته قريش على الكفر والعصيان، ودعته إلى الخروج من الحق والإيمان، وصالت عليه بصولتها، وأذاقته ما قدرت عليه من أليم عقوبتها، حتى أعطاهم ما أرادوا بلسانه وقوله وقلبه مخالف لما لفظ به من مقاله، مطمئن بالإيمان، مخالف لدين أهل العصيان، فقال في ذلك الرحمن: ?إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ?[النحل:106]، وكان الذي أكره وقلبه مطمئن بالإيمان عمار بن ياسر (رحمة الله عليه)، ذو المعرفة بالله والإيمان. فلا يشك مميز عاقل، ولا ينكر ما قلنا به جاهل، من أن الخلق يكره بعضهم بعضاً على القول والفعل لما لا يحب ويرضى، وإن كان ضمير القلوب مخالفاً للكلام، وهذا فموجود في لغة جميع الأنام، فأما علم الضمير فلا يطلع عليه إلا الواحد القدير.(1/573)
ثم قال: إن معنى قوله سبحانه وجل عن كل شأن شأنه: ?وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإليه يُرْجَعُونَ?، هو جبر منه لهم على إسلامهم، وإخراج لهم من ضلالهم وكفرانهم بالجبر والتحويل والقسر، واحتج في ذلك بقول الله سبحانه: ?وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ?؛ فلا تأويل معنى الإسلام من الخلق أصاب، ولا في معنى ما ذكر الله عز وجل من التحبيب والتكريه أجاب. وإنما معنى قول الله سبحانه: ?وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا?، هو: المعرفة به والإقرار بربوبيته، وأنه الخالق غير مخلوق، والرازق غير مرزوق، كما قال سبحانه: ?وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ?[العنكبوت:61]، فهذا معنى ما أراد الله - والله أعلم - بقوله: ?وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا?، لأن الإسلام يخرج في اللغة على معنيين:
[فأحدهما]: الإقرار بفعل الفاعل، والتسليم له، وترك المكابرة له في فعله، والمعاندة له بالإنكار لما يحدث من صنعه.
والمعنى الثاني: فهو الاستسلام لأمر الآمر، والإنفاذ لما حكم به والانقياد لجميع ما قِيد إليه، وصرف من الأفعال فيه.(1/574)
فعلى المعنى الأول يخرج تفسير الآية، لا على المعنى الثاني، الذي توهم الحسن بن محمد أن عليه يخرج معناها، ولو كان ذلك كذلك، أو قارب شيئاً من ذلك لكان جميع الخلق لله مطيعين، وفي أمره سبحانه متصرفين، طائعين كانوا أو كارهين، ولو كان كما يقول هو ومن معه من الجاهلين إذا لما وجد أنبياء الله لله في الأرض عاصين، ولكان الله تبارك وتعالى بإكراهه لهم على طاعته وإدخالهم قسراً في مرضاته مجتزئاً مكفياً عن نهيهم عن معصيته، ولما احتاج الخلق إلى المرسلين، ولما حذرهم الله ما حذر من مردة الجن والعالمين.
وأما قوله: ?طَوْعًا وَكَرْهًا?، فالمطيع منهم في ذلك هو من أطاع الحجة المركبة فيه، والشاهدة بالحق له وعليه، من اللب الذي ينال به التمييز بين كل شيئين، ويثبت له به الرضى والسخط في الحالين، فمن أنصف لبَّه، وقبل ما أدى إليه معقوله من معرفة ربه، كان منصفاً طائعاً، متحرياً للحق خاضعاً. والمكره فهو من كفر وتعدى، وكابر لبَّه وأبى، وعند عن الحق وأساء، حتى أدركه البلاء، واشتد عليه الشقاء، ونزلت به النوازل، واغتال لبه في ذلك الغوائل، ورجع صاغراً إلى إنصاف لبه، ولجأ فيما ناله إلى ربه، واستسلم وأسلم له كما ذكر ذو الجلال ممن تعدى في الغي والمقال حين يقول، ويخبر عنهم ويقص ما كان من أخبارهم، حين يقول ويخبر عن فرعون حين يقول، فقال: ?حَتَّى إذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ?[يونس:90]، ومثل قوله: ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلى الْبَرِّ إذا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65]، ومثل قوله: ?وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إذا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إذا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ?[الروم:33].(1/575)
أما معنى تحبيب الله عز وجل إلى العباد الإيمان، وتكريهه للكفر والفسوق والعصيان، فهو بما جعل وحكم لمن آمن واتقى من الجنان والنعيم والجزاء والإحسان، وبما كان يريهم ويشرعهلديهم من نصر المؤمنين، والإظهار لحجتهم، والإعزاز لدينهم، والتكريه منه لما ذكر، فهوا بما أوجب على فاعل ذلك من العقوبات في الآخرة بالنيران، وفي الدنيا بالقتل والسبي والذل والخذلان. فلما جعل ما جعل من الثواب للمؤمنين، وما أعد وحكم بما حكم به من العقاب على الكافرين، رغب الراغبون في الثواب، وأوجبوا له الإيمان وآمنوا، وهاب واتقى وخاف العقاب الخائفون، فاتقوا وكرهوا الكفر والفسوق والعصيان لخوف العقاب فاهتدوا، وزهد أهل الكفر في كفرهم، لما يرون من ذلهم وصغارهم، وظهور الحق والمحقين واعتلائهم، فتركوا الفسوق ودخلوا في الحق، فهذا إن شاء الله معنى ما ذكر من ذلك العلي الأعلى، لا ما قال وذهب إليه أهل الإفك على الله، وقالوا فيه من الجبر للمخلوقين على ما يكون من أفعالهم والإدخال لهم بالقسر في فاحش أعمالهم من (الغي) والفجور والمنكرات والشرور، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين.(1/576)
ثم قال: إن قال قائل: خبرونا عن المشركين الذين لم يسلموا، هل جبروا على الشرك؟ قيل له: إن المشركين لم يريدوا الإسلام فيجبروا على الشرك، وذلك لو أنهم أرادوا الإيمان وأكرهوا على الشرك، كما أراد المشركون الشرك ورضوا به، وأراد الله جل ثناؤه أن يهديهم فجبرهم على الهدى وهم كارهون، ثم قال: فإن قال قائل: فإن لم يكونوا مجبورين ولا مكرهين، فهل يستطيعون ترك الشرك وقبول الهدى، فقل: لا، إلا إن شاء الله؛ فزعم في آخر قوله أنهم لا يستطيعون ترك الشرك وقبول الهدى، فأبطل حجته وقوله أولاً حين يقول: إنهم إنما يكونوا مجبورين على الشرك لو أرادوا الهدى فمُنِعوا منه وأُدخِلوا في الردى، فأثبت هذا القول لهم الفعل، وأقر أنهم يقدرون على فعل ما لا يريد الرحمن حتى يجبرهم على غيره من الشأن؛ لأن الإرادة والنية فعل لصاحبهما، ولذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن صاحب النية يعطي ويثاب فيها وعليها. وإذا صح أن العباد يفعلون ويريدون ما لا يشاء ربهم حتى يجبرهم على غير ذلك من فعلهم، فقد بطل ما يخرصه الحسن بن محمد من زخرف قوله، وثبت وصح ما يقول به أهل المعرفة بالله من العدل بإقراره.
ثم زعم أن من لم يقدر على ترك الشرك والكفر بربه غير مكره ولا مجبور على ما هو فيه من فعله، وهذا فعين المحال، وأفحش ما يقال به من المقال، وإبطال المعقول، والمكابرة لصحيح العقول؛ لأن من حيل بينه وبين القيام لسبب من الأسباب، فقد جبر على القعود بلا شك ولا ارتياب. وكذلك من أوقدت له نار ثم ألقي فيها، ومنع من التحرف عنها، وحيل بينه وبين الخروج منها، فقد جبر وجبل على الاحتراق فيها. وكذلك الطير إذا قص جناحاه الخافقان، فقد حيل بينه وبين ما يريد من الطيران. وكذلك من لم يجعل فيه من الخلق استطاعة فعل، فقد حيل بينه وبينه، لا يشك في ذلك عاقلان، ولا يختلف فيه جاهلان.(1/577)