وكذلك يعذب الزاني على زناه، والزنا هو: الإيلاج والحركة، والإخراج، ولم يكن الزنا إلا بالفرجين والحركة، فالفرجان فعل الله، والحركة والزنا فعل العبد ذي الفسالة والردى. فالله عز وجل يعذبه على زناه وإدخاله وإخراجه وحركاته، لا على ما خلقه له من الفرج. فخلق الله الآلات وما أنعم به على العبد من الأدوات لينالوا به المنافع واللذات من طريق ما أحل لهم لا من وجه ما حرم عليهم، ثم أمرهم في ذلك باجتناب المعصية وحضهم على فعل الطاعة.
وأما ما سأل عنه وفيه قال بالمحال، وقاس على مقاييس الضلال، فقال: قال الله تبارك وتعالى: ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ?، فقال: ألا ترون أن الله خلق الثمرة في الشجرة فأخرجها منها؟ ثم نسب الثمرة إليها فقال: ?تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا?؟ فكذلك نقول: إن أعمال العباد الله سبحانه خلقها، والعباد عملوها، ثم نسبها إليهم، وأخبر أنهم عملوها.(1/568)


فقولنا في ذلك: إنه غالط في القياس، أو أراد معنى فأخطأ في مقاله؛ لأنه مثَّل ما ليس بمأمور ولا منهي فقاس فعل العباد فيما أوجدوه بفعل الله الذي لم يفعلوه. وإنما قياس الشجرة وما أوجد الله سبحانه فيها من الثمرة قياس الناقة والامرأة؛ الله سبحانه خلق الأولاد فيهما، وهما ولدتا، قال الله سبحانه في امرأة عمران وفيما نذرت مما في بطنها للرحمن حين يقول: ?فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى?[آل عمران:36]، فقال: ?وَضَعَتْهَا?، فنسب الولد، وما كان من تخليصها وتسليمها في وضعها لها إليها، والله سبحانه الذي جعلها في بطنها، وأخرجها بقدرته منها، ولولا إخراجه لها وتخليصه إياها إذا لم تخلصها أبداً أمها. قال الله عز وجل في ذلك: ?يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ?[الروم:19]، فلا يشك أنه المخرج والمخلص للولد من الظلمات الثلاث من: المشيمة، والرحم، والبطن، قال الله سبحانه: ?يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ?[الزمر:6]. وقال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: ?وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا?[العنكبوت:8]، فنسب إليهما ولادتهما إياه، إذ كان الخارج منهما والمصور فيهما، والله سبحانه المصور له والمقدر تصويره وخلقه. فكذلك نسب إلى الشجرة إيتاء أكلها، وهو الخالق لها ولثمرها.(1/569)


فأما قياس أفعال العباد التي نهوا عنها، وأمروا بها، وعوقبوا عليها، وأثيبوا بها، فليس هذا قياسها، وسنأتي به ونذكر إن شاء الله ما هو مثلها. فنقول لمن قال: إن الله سبحانه خلق أفعال العباد وركبها فيهم، وأنطقهم وقضى بها عليهم، ثم نسبها إليهم: ما تقول إذا قلت ذلك، وكان الأمر عندك كذلك، في مشرك أشرك بالله وجحده؟ وفي قتل من قتل الأنبياء بغير حق؟ الذين قال الله فيهم: ?وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ?[آل عمران:21]، آلله فعل ذلك بهم كما فعل غيره من أفعالهم؟ فإن قالوا: نعم، الله فعله وخلقه وقضاه وركبه، فقد زعموا أن الله عز وجل كفر بنفسه، وأمر بالشرك به، وقتل أنبياءه؛ وهذا فأكفر الكفر، وأجهل الجهل بالرحمن عز وجل، عند كل من عرف الحق وكان ذا إيمان. وإن قال: لا؛ رجع عن قوله، (وتاب إلى ربه. وإن قال: فعل الطاعة وخلق بعض المعصية ولم يفعل عظائم العصيان)، ولا فوادح ما تأتي به من الكفران. قيل له: فلا نراك إلا قد أثبت للعبد فعلاً لا محالة دون الرحمن، فإن جاز أن يكون من العبد فعل لم يخلقه الله ولم يفعله جاز أن تكون له أفعال كثيرة، وأمور جمة غير يسيرة، والأمر في ذلك فعلى قولنا لا على قولك، وشَرْحنا بحمد الله لا شرحك، لأنك قد أجمعت معنا على قولنا إذ قد أقررت لنا ببعض فعلنا ونفيته عن خالقنا وربنا، ونحن لا نطيعك في قليل من ذلك ولا كثير، ولا ننسب إلى الله من أفعال عباده عظيماً ولا حقيراً، فهذا قياس ما إليه ذهب، لا ما ارتكب فيه من المحال والعطب.(1/570)


المسألة الحادية والأربعون: هل العباد مجبورون على الأعمال؟
فإن قالوا: أخبرونا عن العباد، أمجبورون على الأعمال، من الإيمان والكفر والمعصية؟ أم لا؟ فقل: منهم من هو مجبور على ذلك، ومنهم من هو غير مجبور. فأما الذين جبروا على الطاعة فمنهم أهل مكة، افتتحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسراً، فأسلموا كرهاً، ولو لم يسلموا قتلهم، واستحل دماءهم وأموالهم؛ فهذا وجه القسر والجبر. وأما الوجه الآخر: فإن الله تبارك وتعالى قد قذف في قلوبهم الهدى، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ثم قال: ?أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ?[الحجرات:7]، وقد قال في كتابه: ?وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا?[آل عمران:83].
فإن قالوا: أخبرونا عن المشركين الذين لم يسلموا، أجبروا على الشرك؟ فيقال لهم: إن المشركين لم يريدوا الإسلام، فيجبروا على الشرك؛ ذلك أنهم لو أرادوا الإيمان فأكرهوا على الشرك [لكانوا مجبورين]؛ كما [لو] أراد المشركون الشرك ورضوا به، وأراد الله أن يهديهم فجبرهم على الهدى وهم كارهون. فإن قالوا: فإن لم يكونوا مجبورين ولا مكرهين، فهل يستطيعون ترك الشرك وقبول الهدى؟ فقل: لا؛ إلا أن يشاء الله. فإن قالوا: فكيف لا يكونون مجبورين، ولا يستطيعون أن يتركوا شركهم؟ فقل: كذلك الله يفعل ما يشاء، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فلا مضل لمن هدى، ولا هادي لمن يضل.
جواب المسألة الحادية والأربعين:(1/571)


ثم قال: إن قال قائل: خبرونا عن العباد، أمجبورون على الأعمال من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية والغدر؟ أم لا؟ فقل: منهم من هو مجبور على الطاعة فهم أهل مكة، افتتحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسراً، فأسلموا لذلك كرها، ولو لم يسلموا قتلهم واستحل دماءهم وأموالهم، فهذا وجه القسر والجبر، وأما الوجه الآخر: فإن الله قذف في قلوبهم الهدى، وحبب إليهم الإيمان، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ثم قال: ?أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ?، ثم قال: ?وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ?.(1/572)

114 / 172
ع
En
A+
A-