وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ?وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إذا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا?، فإن الجواب في ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يركن إليهم بترخيص لهم في دينهم، ولا إسعاف لهم في شيء من أمرهم، ولا بتولي أحد منهم، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم كان رحيماً رفيقاً حليماً وصولاً للأرحام كريماً. كان صلى الله عليه وآله وسلم ربما رق لهم من العذاب الذي أعد لهم ربهم، رحمة بهم، فأنزل الله سبحانه عليه تحريم الرحمة لهم، فأمره والمؤمنين بترك الرحمة لأهل المعاصي الفاسقين، فقال: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ?[التوبة:73]، وقال: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ?[النور:2]، فثبته الله بما أنزل عليه من ذلك.
فلما أن علم أن رحمتهم لله تسخط غلظ عليهم، واشتد قلبه عن الرحمة بهم لما أمره الله سبحانه فيهم، فكان ذلك تثبيتاً منه له عن أن يركن إلى ما يدعوه إليه الكرم والصلة للرحم من الرحمة، لا ما يقول الضالون على الله وعلى رسوله من أنه كاد أن يركن إليهم ويميل بالمحاباة في صفهم، ثم قال سبحانه: ?إذا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ?، يقول: لو رحمتهم ورفقت من بعد نهينا لك عن ذلك بهم، لكنت لنا من العاصين، وكنت عندنا على ذلك من المعذبين.(1/563)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ?إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إذا شَطَطًا?، فآخر هذه الآية دليل على تفسير ما سأل عنه في أولها، ألا تسمع منه كيف ذكر عنهم ما ذكر من الإيمان والإخلاص لله الواحد الرحمن، فلما أن آمنوا زادهم إيماناً، وكذلك يفعل الله بعباده المؤمنين، ألا ترى كيف قال: ?إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ?، فكذلك يفعل الله بمن آمن واتقى، كما يخذل من عند عن أمره وعصى. ولولا ما ركب فيهم من الاستطاعة (أولاً ما نالوا زيادة الله لهم في الهدى آخراً، ولكن بما جعل فيهم من الاستطاعة ما يقدرون) على الطاعة والعصيان، فآثروا الطاعة ورفضوا المعصية، فصاروا بذلك مؤمنين، فاستأهلوا من الله الزيادة في كل خير، والدفع منه عنهم لكل ضير. ألا ترى كيف يقول: ?إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى?، يقول: لما أن عملوا الطاعة بما فيهم من القدرة والاستطاعة زدناهم من الخير والكرامة.
ثم قال الحسن بن محمد: وكذلك الله يفعل ما يشاء، يضل من يشاء، ولا يسأل عما يفعل، والخلق يسألون، فتوهم - ويحه - أن الله سبحانه يضل عن سبيل الرشاد قوماً منعهم بالإضلال عن الرشاد، (وكيف يكون ذلك، وقد أمرهم بالاهتداء)، وبعث إليهم الأنبياء يدعونهم إلى البر والتقوى، وهم لذلك غير مستطيعين، ولا عليه مقتدرين، لقد إذا ظلمهم فيما إليه دعاهم، إذ عنه قد حجرهم وأغواهم، فتبارك الله عن مقالة الجهال من أهل الجبر والضلال.(1/564)


المسألة الأربعون: هل خلق الله أفعال العباد؟
وإن قالوا: أخبرونا عن الأعمال، أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فأنتم تزعمون أن الله خلقها؟ فإن قالوا: كيف نسبها الله إلى خلقه، وجعلهم الذين عملوا وتكلموا؟ فقولوا: ألا ترون أن الله عز وجل قد قال: ?وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا?، وقال: ?وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ?[النحل:80]، وأنتم تعلمون أن الناس هم الذين غزلوا ونسجوا السرابيل، وعملوا الدروع، وبنوا البيوت، واتخذوا المظال، وقد منَّ علينا به، وأخبرنا أنه جعله، وذلك أنه ألهمنا بمنته أن غزلنا، وهو علمنا ذلك، ونسجنا وعملنا ما عملنا، وأخبرنا أنه قد جعله؛ فكذلك خلق ما عملنا من طاعة أو معصية، ونحن عملناها جميعاً. وكذلك قال أيضاً: ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ?[إبراهيم:24]، ألا ترون أن الله سبحانه خلق الثمرة في الشجرة، وأخرجها منها، ونسب الخروج منها إليها، وقال: ?تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا?؟ وكذلك أعمال العباد، خلقها ثم نسبها إليهم، وأخبر أنهم عملوها.
جواب المسألة الأربعون:(1/565)


وأما ما تكلم وموّه به، فقال: إن سألونا عن أفعال العباد: مخلوقة هي؟ أم غير مخلوقة؟ ثم قال: هي مخلوقة إذ نسبها الله إليه كما نسب غيرها من أفعالنا إليه، من ذلك قوله: ?وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا?، وقال: ?وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ?، والسرابيل والبيوت فالعباد يعملونها، وقد نسبها الله جل جلاله إليه، فكذلك أعمالنا هي منا، وهي فعله فينا.
فجوابنا في ذلك: أنه بخلاف ما قال، وأنه قد أخطأ في القياس إذ قاس أفعال العباد التي هم فاعلوها، ومن بعد العدم أوجدوها إلى ما فعلوا فيه من خرز الجلود، وعمل الحديد ونسج الثياب التي الله تبارك وتعالى خلق أصلها، وأوجد أولها وصورها. فلما أن كان الله سبحانه الذي أوجد ذلك كله كان هو الجاعل له في أصله والممتن به على جميع خلقه. وأفعال العباد في ذلك فلم يخلقها الله سبحانه، ولكن الله أوجد ما ذكر من أصولها، والعباد صنعوا ما صنعوا فيها، وعملوا ما عملوا منها، فنسب إليه صنع ما أوجد من هذه الأصول التي قد فرغت وجعلت ونقلت. فبين هذا، وبين أفعال العباد فرق عند من كان له عقل.
هل رأى أو سمع خلق في شيء من الكتاب المنزل، أن الله سبحانه ذكر أنه فعل شيئاً مما فعلوه من الفجور والردى، وشرب الخمور، وارتكاب الهوى؟ بل نسب ذلك كله إلى فاعله، ونفاه سبحانه عن نفسه.
فإن قالوا: إن الله سبحانه خلق الأدوات التي تكون بها الأفعال في كل الحالات؛ من الفروج والأيدي والألسن واللهوات، كما خلق الجلود والقطن والحديد والصوف؛ فنحن نقول: إذ قد أوجد أصل أفعال العباد، أن منه أفعالهم، كما نقول إن السرابيل منه إذ أوجد أصولها.(1/566)


قلنا لهم في ذلك: ليس هذا كذلك؛ لأن الله سبحانه أوجد الأصل الذي نقل وصنع وعمل من هذه التي نسبها إليه من الجلود والكرسف والصوف والحديد، والعباد فعلوا الحدث الذي صرفوها به وأحدثوه فيها، من عملها ونسجها وصناعتها وغزلها بالأكف والأدوات التي جعلت لهم، والاستطاعة التي ركبت فيهم، فالتأم في ذلك جلود وأيد وحركات. فكان الله عز وجل الخالق للأيدي والجلود، وكان العباد الفاعلين للحركات، الصانعين لتلك المصنوعات. كذلك الله سبحانه خلق الحجارة والطين، والعباد بنوا الدور وشيدوا ما بنوا من القصور، فاجتمعت في ذلك الحجارة والأكف العمالة، والحركات التي دبرت لها الحجارات، فكان الله جل ثناؤه خالق الأيدي والصخور، والعباد أحدثوا الحركات وبنوا الدور. وأفعال الله سبحانه فكائنة عندما يريدها بلا تخيُّل، ولا حركات، ولا تأليف شيء إلى شيء بالأكف العمالات. ففي هذا أبين الفرق بين أفعال المخلوقين وبين أفعال رب العالمين، فما كان من فعل الله فليس من أفعال العباد، وما كان من أفعال العباد، فليس من أفعال ذي العزة والأياد.
كذلك لو أن رجلاً سرق صوفاً فنسجه سربالاً وثوباً، لم يعذبه الله سبحانه على جرم الصوف، ولا على ما قبضه به من اليد والكف، وإنما يعذبه على أخذه وحوزه عن ربه، واستئثاره عليه به، وما كان من انتفاعه به ولبسه، فعذبه سبحانه على ما كان من حركاته وفعله، ولم يعذبه على ما خلق وصور من نفس المسروق وصورته.(1/567)

113 / 172
ع
En
A+
A-