وأما قوله: ?وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً?، يقول: إن إعطاءنا وامتنانا ومجازاتنا لأهل طاعتنا في معادهم وآخرتهم على أعمالهم أكبر درجات وأكبر تفضيلا، على اجتهادهم في مرضاتنا، فمن كثر عمله بالخير كان عند الله في الآخرة أكبر درجات ممن نقص عمله، وذلك قوله سبحانه: ?مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إلا مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ?[الأنعام:160].
تم جواب مسألته(1/553)


المسألة السابعة والثلاثون: في سلطان الشيطان
ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله تبارك وتعالى لإبليس: ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ?[الحجرات:42]، وقال: ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ?[النحل:99]، وقال إبليس: ?لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ?[الحجر:39]، فقال: أخبرونا عن هذا السلطان، ما هو؟ فإن قالوا: هو التخييل؛ فقل: فما أكثر ما لقي منه المؤمنون وأطفالهم. وإن قالوا: هو الدعاء؛ فقل: فهذا ما (لا يدعوا) به المؤمن والكافر، والخلق كلهم حتى عرض للأنبياء فدعاهم، والتمس فتنتهم، فدعاهم كلهم إلى المعصية. وإن قالوا: هو التضليل، ولن يصل بذلك إلى عباد الله المؤمنين لأن الله عصمهم، وهو الوكيل عليهم؛ فقد أجابوا، ونقض ذلك قولهم.
تمت مسألته
[جوابها:](1/554)


وأما ما سأل عنه من قول الله عز وجل لإبليس: ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ?، ومن قوله: ?إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ?، وعن قول إبليس حين قال: ?فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ?، فقال: ما هذا السلطان الذي ليس للشيطان على المؤمنين؟ فتوهم لجهله وسوء نظره وعلمه أن الله تبارك وتعالى، حال بين إبليس وبين بعض العباد حولاً، ومنعه من الوسوسة لهم منعاً، وقسرهم عنه قسراً، وليس ذلك كما قال. ألا تسمع ما ذكر الله عن آدم وزوجه، وكيف كانت وسوسته لهما حتى أوقعهما فيه، وكذلك (اعترض لعيسى بن مريم حتى دحره ولم يطمعه في شيء مما ذكره، ولغيرهما من الأنبياء) والمؤمنين. فلو منعه الله من أحد من المؤمنين منعاً، وقسره عن الوسوسة له قسراً، لكان ذلك لأبيهم آدم صلى الله عليه، ولكنه سبحانه منعه من ذلك بالنهي له، والزجر عما هو عليه من إغوائه، وعاقبه عليه، وأعد له النار والعذاب فيه، فقال: ?لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ?[هود:119].(1/555)


فأما السلطان الذي ذكر الله عز وجل أنه ليس له على المؤمنين في قوله: ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ?، فهو ما علم من المؤمنين من طرده ودحره، وترك طاعته في وسوسته وأمره، وأنهم لا يجعلون له عليهم سلطاناً بشيء من الطاعة له من العصيان لربهم، وأنهم لا يزالون مؤثرين لطاعة الرحمن محترسين من الشيطان بتلاوة القرآن والاعتصام بذي الجلال المنان، فهم أبداً لله مراقبون، وفي طاعته ساعون، وللشيطان اللعين معادون كما أمرهم ربهم حين يقول: ?إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا?[فاطر:6]، وفي كل ما أمرهم به مخالفون، فأولئك هم المهتدون الذين على ربهم يتوكلون، فليس له على هؤلاء سلطان، وإنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون، وكذلك سلطانه على أوليائه، وهو دعاؤه لهم وإغوائه إياهم، وقبولهم منه، ومثابرتهم عليه، فلما أن قبلوا منه ولم يعصوه كانت طاعتهم له السلطان عليهم إذ أطاعوه وفي دعائه اتبعوه.
تم جواب مسألته(1/556)


المسألة الثامنة والثلاثون: في اختصاص الله رحمته لبعض خلقه ومعنى شرح الصدر
ثم أتبع ذلك المسألة، فقال: أخبرونا هل يخص الله برحمته من يشاء من خلقه؟ أم ليست له خاصة؟ وإنما هو أمر عام، فمن شاء ترك ومن شاء أخذ؟ فإن قالوا ذلك؛ فقد كذبوا، والله سبحانه يخبر بخلاف قولهم إذ يقول لنبيه عليه السلام: ?أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ?[الشرح:1-2]، وقال أيضاً لمن أراد أن يخصه بالهدى من خلقه: ?فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ?[الأنعام:152]، وقال أيضاً: ?أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ?[الزمر:22]، فقال: أخبرونا عن الشرح، ما هو؟ أهو الهدى؟ أم هو الدعاء؟ فإن قالوا: إنه الدعاء؛ زعموا أن كل كافر مشروح الصدر بالإسلام، وأن الخلق كلهم جميعاً قد شرحت صدورهم؛ لأنهم قد دعوا كلهم. وإن قالوا: هو الهدى الذي يمنُّ الله به على من يشاء من عباده؛ فقد أجابوا.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه، فقال: أخبرونا هل يختص الله برحمته من يشاء من خلقه؟ أم ليست له خاصة؟ فإنا نقول كما قال الله سبحانه: ?وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ?[الحديد:29]، ثم نقول: إن اختصاص الله برحمته من يشاء من عباده يخرج على معنيين:(1/557)

111 / 172
ع
En
A+
A-