فنقول: إن الله لما أن علم أنه إذ ألقى على موسى صلى الله عليه من المحبة التي ذكر أنه ألقاها عليه في قوله: ?وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي?[طه:39]، فلما ألقى عليه المحبة أحبته لذلك امرأة فرعون، فسألت فرعون تركه عندما همَّ به من قتله حين تبين له ما كان من فعله في صغره، فتركه لها، وصفح عنه بحب محبتها واتباع شأوها، فكان ذلك نجاة لموسى مما هم به فيه فرعون الكافر الملعون، فلما أن علم الله سبحانه أن ذلك سيكون من اختيار فرعون، وأنه سيختار إجابة امرأته إلى ما طلبت من ترك قتل نبي الله، حكم عليه بما علم من صيور أمره، فكان ما ألقى عليه من المحبة منه سبحانه سبباً لنجاته، فنجاه الله من فرعون ورده إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن. فأخبر الله في ذلك، ووعدها ما وعدها، لعلمه بما سيكون من امرأة فرعون وطلبها في موسى، وإجابة فرعون لها كما أخبر عما يكون يوم الدين، فهذا معنى ما ذكر الله من ذلك إن شاء الله، لا ما قاله الفاسقون، وذهب إليه الضالون.
تم جواب مسألته(1/548)
المسألة الخامسة والثلاثون: معنى قوله تعالى: ?وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ? وهل كان في قدرة جميع العباد أن يطيعوا الله ولا يعصوه؟
ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه: ?وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ?[غافر:6]، وقوله: ?وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ?، وقوله: ?وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا?[السجدة:13]، فقال: أخبرونا عن بني آدم كلهم، هل كانوا يستطيعون أن يطيعوا الله جميعاً فلا يعصوه؟ ويعبده كلهم حتى لا يعبدوا غيره؟ فيوجب لهم الجنة، ويحرم عليهم النار، فلا يدخلها أحد منهم؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا بكتاب الله، وزعموا أنهم يقدرون على أن يبطلوا قول الله تبارك وتعالى عن ذلك. وإن قالوا: لا، لم يكونوا يستطيعون أن يطيعوا ولا يعبدوا؛ كان ذلك نقضاً لقولهم، وإبطالاً لحجتهم.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ?وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ?، فقال: خبرونا عن قول الله: ?وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ?، فقال: هل يستطيع هؤلاء أن يطيعوا، وقد حق عليهم من الله القول والأمر، ووقع الحكم والجبر؟ فتوهم الحسن بن محمد لقلة علمه وكثرة جهله أن الله تبارك وتعالى حكم عليهم بما أدخلهم فيه وجبلهم عليه، فظلَّم ربه وكفَّر نفسه، وليس ذلك على ما قال، ولا على ما ذهب إليه من المحال، وسنفسر ذلك من قول الله تبارك وتعالى.(1/549)
فنقول: إن الكلمة التي حقت هي حكمه على من كفر من الخلق بالنيران، من الجِنة والإنسان. فإن الله تبارك وتعالى، علم بما سيكون منهم من العصيان والإحسان، فأوجب للمحسنين الثواب، وعلى المذنبين العقاب.
فأما ما سأل عنه من قوله: هل كانوا يستطيعون أن يطيعوا الله جميعاً فلا يعصوه؟ فكذلك نقول: إنهم كانوا يستطيعون طاعته، كما يطيقون معصيته، ولكنهم افترقت بهم الأهواء، فمنهم من اختار الإيمان والتقوى، ومنهم من اختار الضلالة والعمى، والله تبارك وتعالى فإنما حكم بالنيران على من اختار من الثقلين العصيان، أو كره ما أنزل الرحمن، فعلم الله وقع على اختيارهم وما يكون من أفعالهم، ولم يدخلهم في صغيرة، ولم يخرجهم من كبيرة، ولو علم أنه إذا دعاهم وبصرهم وهداهم أجابوه باسرهم وأطاعوه في كل أمرهم، إذا لأخبر بذلك عنهم، كما أخبر به عن بعضهم، وكذلك لو علم أنهم يختارون بأجمعهم المعصية، لحكم عليهم بالنار كما حكم على الذين كفروا منهم.
وأما قوله سبحانه: ?وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ?، فكذلك الله سبحانه لو شاء أن يجبر العباد على طاعته جبراً، ويخرجهم من معصيته قسراً؛ لفعل ذلك بهم، ولو فعل ذلك بهم، وحكم به عليهم لم يكن ليوجد ناراً، ولا ليخلق ثواباً، ولكان الناس كلهم مصروفين لا متصرفين، ومفعولاً بهم لا فاعلين، ولكنه سبحانه أراد أن لا يثيب ولا يعاقب إلا عاقلاً متخيراً مميزاً، فأمر العباد ونهاهم وبصرهم وهداهم، وجعل منهم استطاعات ينالون بها المعاصي والطاعات، ليطيع المطيع فيستأهل بعمله وتخيره الثواب، ويعصي العاصي فيستوجب باكتسابه العقاب.(1/550)
فأما قوله: ?وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ?، فهو: وجب وحق الحكم مني بما حكمت به ومضى ووقع عليه ما جعلته من عقاب المذنبين، وثواب المحسنين من الجِنة والناس أجمعين. فهذا معنى قوله سبحانه، لا ما قال المبطلون، ونسب إليه سبحانه الجاهلون، من ظلم العباد، والإدخال لهم في الفساد.
تم جواب مسألته(1/551)
المسألة السادسة والثلاثون: في تفضيل بعض الخلق على بعض
ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه: ?انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً?[الإسراء:21]، فيقال لهم: ألستم تقرون أنه قد فضل بعض خلقه على بعض في الدنيا والآخرة وخصهم؟ وخص بذلك بعض خلقه دون بعض؟ فإن قالوا: نعم؛ انتقض قولهم، فإن الطاعة والإيمان مما فضل الله به عباده وخصهم به من رحمته. وإن قالوا: لا؛ فقد جحدوا بآيات الله وكذبوا كتابه.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من قول الله جل جلاله: ?انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً?، فقال: إن الله سبحانه فضل قوماً - بأن أدخلهم في الإيمان - على قوم أدخلهم في الكفر والعصيان؛ فضلَّ بذلك وغوي، وهلك عند الله وشقى، ونسب إلى الله سبحانه من ذلك الجور والردى، فتعالى وتقدس عن ذلك ربنا. وليس كما قال الجهال من أهل السفاهة والضلال، بل هو كما قال ذو الجلال حين يقول: ?يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ?[الشورى:49]، وكما قال سبحانه لنبيه عليه السلام: ?وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا?[طه:131]، ففضل بعضهم على بعض بما وهب من الذكور، وبما يجعل ويوسع به من الأرزاق، ويمن به ويتفضل على من يشاء من الأرفاق، وما يرزق من يشاء من الحسن والجمال والمنطق والكمال، وكم قد رأينا وفهمنا وعاينا من مولود يولد أعمى، وآخر يكون ذا زيادة ونقصان، وآخر سوي غير زائد ولا ناقص، قد تمت عليه من الله النعماء، وصرفت عنه وعن والديه فيه البلوى. فهذا وما كان مثله مما فضل الله به بعضاً على بعض مما ليس لهم فيه على الله حجة يفعل من ذلك ما يشاء سبحانه ذو الجلال والحكمة، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.(1/552)