معرفة الآخرة
وفي الحكمة التقويم بين المطيع والعاصي، وفي ذلك إيجاب الثواب والعقاب. فلما تصرمت أعمار المطيعين ولم يثابوا، وتقضت آجال العاصين ولم يعاقبوا، وجب على قود التوحيد واطراد الحكمة أن داراً بعد هذه الدار يثاب فيها المطيعون، ويعاقب فيها المسيئون. وهذه أمور أوجبتها الفطرة، واستحقت بالإيمان. وقليل من تقررت المعرفة في قلبه إلا باستقرار أدلتها، وشهادة بعضها على بعض، وتضمين كل شيء منها ما قبله وبعده، واستطراد ذلك كله في العقول.(1/52)
معرفة أنه لا بد من رسول
فلما أن كان ذلك كذلك، كان في ضرورة العقل أن لا سبيل له إلى علم كيفية الطاعة من دون الخبر من عند المنعم بكيفية الطاعة، إذ لا يمكن الخبر من الله ملاقاةً لله. فإذا علم أن الخبر لا يمكن من الله مشافهة لله، علم أن خبر الطاعة لا يمكن إلا برسولٍ من عند المنعم، باين من البشر في أعلامه وأفعاله. فمن ههنا لزم البالغ المدرك أن يعلم أن لله رسولاً لا من قبل إخبار الناقلين.
فلما لم يجز إلا بعثة الرسل، وكانت الرسل من البشر وفي مثل تركيب المبعوث إليهم، وعباداً لله مثلهم لم يجز تصديقهم على الله إلا بدلالة بينة وحجة قاطعة، يعلم الخلق بعجزهم عنها أن الله تولى ذلك على أيديهم، فجاءت الرسل بالآيات التي ليس في قوى الخلق المجيء بمثلها، فوجب تصديقهم على الله بعد الحجة والبيان.
فمن أدرك أزمنتهم وشاهدهم في عصورهم، وقامت عليه حجتهم، لزمه الإقرار بهم والتسليم لأمرهم، والقبول لما جاءوا به، وسقط عنه كثير من الكلفة في تمييز الأخبار، وامتحان الناقلين، وبحسب ما قامت عليه الحجة، كلفه الله الذب عن دينه والقيام بحجته.
ومن تراخت به الأيام عن لقائهم، وكان في غير أعصارهم، كانت الحجة عليه في معرفتهم، والتصديق لما جاؤا به، والديانة لما دعوا إليه، تواتر الأخبار التي في مثلها يمتنع الكذب، ولا يتهيأ بالاتفاق، ويكون سامعها مضطراً في فطرته إلى أن ناقليها لا يمكن مثلهم الكذب، ولا التواطؤ على مقالة: كقوم مختلفي الأجناس، متبايني الديار، متقطعي الأسباب، متفاوتي اللقاء، متراخي الأزمنة، ينقلون خبراً واحداً، متسق النظام، محروساً من الغلط، محصناً من الوهم، ولعله يخرج في مال أحدهم وبدنه، لا يعارضهم فيه معارض بتكذيب، قد كاد يكون ولما أن يكون عياناً.(1/53)
ورود الأخبار الكاذبة
وقد يجيء بين ذلك أخبار، بعضها مستحيل كونه في العقول، ويبعد أن يجيء بمثلها رسول، لما فيها من الكذب والزور، ولن تجيء هذه الأخبار مجيء إجماع أبداً، وإنما سبيلها: الشذوذ والغلط في التأويل، وفي معرفة مخرج الخاص من العام، وفي معرفة المحكم من المتشابه.(1/54)
أقسام الأخبار
فمن هذه الأخبار ما هو في أصله منسوخ، ومنها ما هو في مخرجه عام، وفي معناه خاص، ومنها متشابه يحتاج إلى بيان، ومنها ما حفظ أوله ونسي آخره، ومنها ما روي مرسلاً بلا حجة فيه ولا تبيان لمتدبريه، ومنها ما دلس على الرواة في كتبهم. فيا لله كيف حارت العقول، وقلّدت الأتباع، وتقسمت الأهواء، وتفرقت الآراء، ونبذ القرآن، وغيرت السنن، وبدلت الأحكام، وخولف التوحيد، وعاد الإسلام غريباً، والمؤمن وحيداً خائفاً، والدين خاملاً!
فتسديدك اللهم وعونك، فإنا لم نؤت في تفرقنا من قبلك، ولا في اختلافنا من قدرك، كذب المدعون ذلك فيك، وهلك المفترون ذلك عليك، ونحن الشهود لك على خلقك، والناصبون لكل من عَنَدَ عن دينك، واتهم قضاءك، وجانب هداك، وأحال ذنبه عليك، ونسب جوره إليك، أو قاسك بمقدار، أو شبهك بمثال، وقد قطعت العذر بكتابك المنزل، وأكملت دينك على لسان نبيك المرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أمَّا بعد: فإن الدين لما عفت آثاره، وانطمست أعلامه، واضمحلت أنباؤه، وسدت مطالعه عندما فقد من أنصاره والقائمين بحفظه وحياطته نطق الكاظمون، وظهر المرصِدُون، ولله جل ذكره إلى كل رصد من الباطل طلائع من الحق، ومع كل داع إلى الضلال بينات من الهدى، وإلى جنب طريق كل حيرة سبب واضح من الإرشاد، وفي كل شيء حجة قاطعة.
فأمَّا رسل الله صلوات الله عليهم فقد قاموا بحجج البلاغ، وأدوا وظائف الحقوق، وبلغوا ما عليهم من فرض النصيحة، وأنفذوا شرائط الله عليهم في خلقه، ووقفوا العباد على سبيل النجاة، وسلكوا بهم منهاج السلامة، وحذروهم طرق الحيرة، واحتملوا في جنب مرضاته الصبر في البأساء والضرَّاء، صلوات الله عليهم ورحمته.(1/55)
ذكر الفترة والعمل فيها
وفيما بين أزمنة الرسل فترات في مثلها يتحير الضُلاَّل، ويدفن الحق، ويغمض البرهان بتظاهر الجبارين على أولياءِ الله، وهنالك يندب الشيطان ولاته، ويبث دعاته، وينصب حبائله، ويدخل على الناس الشبهة، ويضطرهم إلى الحيرة، وليست فترة من الهدى، ولكنها فترة من الرسل، وفيها كتبه وحججه، وبقايا من أهل العلم، يُحْيُون العلم ويَحْيَون به، قد وجهوا لله من رغبتهم، وامتحنهم الله بأهل دهرهم، قد تمسكوا بنور كتابه، وعرفوا مواقع حججه في كل بدعة حدثت، أو شبهة نزلت، فهم من الناس في أذى وجهد، ومن الله في كلاءة وحفظ، فهم الأقلون عدداً، والأعظمون عند الله قدراً، ولن تخلو أمة من مغتال لها مفرق لجماعتها، وآخر داعٍ إلى هداها وصلاحها.(1/56)