وأما المعنى الآخر: فبيِّن في لسان العرب موجود، معروف عن كلها محدود، وهو أن يكون معنى قوله: ?أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا?، أي تركناه من ذكرنا، والذكر فهو التذكرة من الله، والتنبيه والتسديد، والتعريف والهداية إلى الخير والتوفيق. فيقول سبحانه: تركنا قلبه من تذكيرنا وعوننا وهدايتنا بما أصر عليه من الإشراك بنا، واجترأ علينا. تقول العرب: يا فلان أغفلت فلاناً، ويقول القائل: لا تغفلني؛ أي تتركني. وتقول العرب: قم مني، أي قم عني، فتخلف بعض حروف الصفات ببعض، وتقيم بعضها مقام بعض.
قال الشاعر:
شربن بماء البحر ثم ترفعت .... لدى لجج خضر لهن نئيج
فقال: لدى لجج؛ وإنما يريد: على لجج. فذكر السحاب وشربها من البحار واستقلالها بما فيها من الأمطار. وقال آخر:
أغفلت تغلب من معروفك الكاسي .... فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي
فقال: أغفلت تغلب من معروفك؛ أي تركتها من عطائك ونوالك ومنتك وأوصالك. ثم قال: فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي؛ فقال: منهم؛ وإنما يريد: عليهم مغضباً. فأقام حرف الصفة وهو (من) مقام أختها، وهي (على) ، فأقام (منهم) مقام (عليهم)، فهذا معنى الآية إن شاء الله ومخرجها، لا ما توهم الجهال على ذي المعالي والجلال من الجبر لعباده والإضلال والظلم والتجبر بالإغفال.
تم جواب مسألته(1/543)
المسألة الثالثة والثلاثون: معنى قوله تعالى: ?أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا?
ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله في الأز، فقال: خبرونا عن قول الله سبحانه: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا?[مريم:83]، فيقال لهم: هل أراد الله سبحانه أن يؤمن هؤلاء الذين أرسل عليهم الشياطين؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كفروا وجحدوا، وإن قالوا: لا؛ فقد نقض ذلك قولهم.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا?، فقال: هل أراد الله من هؤلاء الذين أرسل عليهم الشياطين تأزُّهم أن يكونوا به من المؤمنين؟ وبما أنزل عز وجل من المصدقين؟ وقد أرسل عليهم مردة الشياطين؟! فتوهم بجهله أن الله أرسل الشياطين على الآدميين إرسالاً، وجبرهم على تحييرهم وتضليلهم جبراً، وأدخل الشياطين في إغوائهم قسراً، ليضلوهم عن الهدى، ويوقعوهم في الردى، وأن ذلك كان من الله للشياطين أمراً وقضاء قضى به عليهم قسراً. وليس ذلك كما قال، ولا على ما ذهب إليه من فاحش المقال. وكيف يرسل الشياطين على عباده إرسالاً، ويدخلها في الإغواء لهم إدخالاً، ثم يعذبها عليه، ويعاقبها فيه؟! ألا تسمع كيف يقول سبحانه: ?لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ?[ص:85]، فلم إن كان أرسله عليهم إذا يعاقبه على ما صنع فيهم؟ بل هو على غير ما يقول في الرحمن أهل الضلالة والطغيان.(1/544)
ثم نقول من بعد ذلك: إن معنى قوله سبحانه: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا?، هو: خلينا ولم نحل بين أحد من بعد أن أمرنا ونهينا. وليس إرساله للشياطين إلا كإرساله للآدميين، فكل قد أمره بطاعته ونهاه عن معصيته، وجعل فيه ما يعبده به من استطاعته، ثم بصرهم وهداهم ولم يحل بين أحد وبين العمل، فمن عمل بالطاعة أثابه، ومن عمل بالمعصية عاقبه، ولم يخرج أحداً من معصيته جبراً، ولم يدخله في طاعته قسراً. فكان ما أعطى من الجن والإنس من الاستطاعات وترك قسرهم على الطاعات إرسالاً وتخلية منه لهم في الحالات، لا ما يقول به أهل الجهالات، ?لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وإن اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ?[الأنفال:42]. فلما أخذل الكافرين بكفرهم، ولعنهم بجرائمهم، وتبرأ منهم بعصيانهم، غويت بهم الشياطين، وسولت لهم فأمْلت فاتبعوها، ولم يعصوها ويبعدوها، ولم يتذكروا عندما يطيف بهم طائف الشيطان، بل تكمهوا وغووا وعموا. ولم يكونوا في ذلك عنده كالذين اتقوا عند إلمام الشيطان بهم كما فعلوا، قال الله سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ?[الأعراف:201]، يقول سبحانه: ذكروا ما نهاهم الله عنه من طاعته، وأمرهم به من مخالفته، واتخاذه عدواً حين يقول: ?إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ?[فاطر:6]، فلما أن طاف بالمؤمنين ودعاهم إلى ما أجابه إليه من الكفر بالله الفاسقون، ذكروا الله وتذكروا أمره ونهيه، وما أمرهم به من طاعته وحذرهم من معصيته، فأبصروا الحق واجتنبوا اللعين وعصوه، وفيما دعاهم إليه من العصيان خالفوه. ألا تسمع كيف أثنى عليهم بذلك ربهم، وذكر عنهم سيدهم وخالقهم حين يقول:(1/545)
?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ?[الحجر:42]، يقول سبحانه: إن عبادي المؤمنين، وأوليائي المتقين لا يجعلون لك عليهم سلطاناً، ولا يطيعونك فيما تأمرهم به من العصيان، بل يحترسون منك بطاعة الرحمن، وتلاوة القرآن، ويُخلِّفونك صاغراً في كل شأن، فلا يجري ولا يجوز لك عليهم سلطان. وليس تخليته للشياطين إلا كإذنه للساحرين حين يقول: ?وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلا بِإِذْنِ اللّهِ?[البقرة:102]، فإذنه في ذلك تخليته وترك الصرف لهم جبراً عن معصيته، والإدخال لهم جبراً في طاعته.
تم جواب مسألته(1/546)
المسألة الرابعة والثلاثون: هل كان فرعون يستطيع قتل موسى صلوات الله وسلامه عليه؟
ثم أتبع ذلك المسألة (عن قول الله سبحانه) في موسى، وما وعد أمه أن يرده إليها، ويجعله من المرسلين، فقال: خبرونا عن قول الله سبحانه: ?وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ?[القصص:7]، هل كان فرعون يستطيع أن يقتل موسى حتى لا يرده الله إلى أمه ولا يجعله من المرسلين؟ فإن قالوا: نعم؛ كذبوا وجحدوا؛ وإن قالوا: لا؛ فقد نقض ذلك قولهم.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من قول الله عز وجل في موسى: ?وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ?، فقال: هل كان يستطيع فرعون أن يقتل موسى حتى لا يرده إلى أمه ولا يجعله من المرسلين؟ فقال: إن الله أخرج فرعون من أكبر المعاصي بعد الشرك به من قتله نبيه إخراجاً، ومنعه من معصيته منعاً، وقسره على الخروج قسراً. ولو جاز أن يخرج عدوه من معاصيه قسراً، لكان قد أدخله في ضدها من الطاعة جبراً، ولو كان يخرج العاصين من معاصي رب العالمين لكان عباده المؤمنون أولى بذلك، ولو أخرج عباده ومنعهم من معاصيه قسراً لأدخلهم في طاعته جبراً، ولو فعل ذلك بهم لسقط معنى الأمر والنهي، ولكان العامل دونهم، الفاعل لأفعالهم، تعالى الله عن ذلك؛ ولم يُطَع سبحانه مُكرهاً، ولم يُعصَ جل جلاله مغلوباً، بل نقول في ذلك بالحق إن شاء الله.(1/547)