المسألة الثلاثون: معنى قوله تعالى: ?صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ?
ثم أتبع ذلك المسألة عما ضرب الله عز وجل للمنافقين من المثل في قوله: ?مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ?[البقرة:18]، فنقول: ألا يرن أن الله هو الذي ذهب بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون؟ فأخبرونا هل كان هؤلاء يستطيعون سماع الهدى، وقد وصفهم الله سبحانه بالصمم؟ وهل كان لهم أن يقبلوا الهدى وقد وصفهم الله سبحانه بالعمى؟ وهل كانوا ينتفعون بنور الهدى، وقد ذهب الله به؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا بكتاب الله وجحدوا بآياته. وإن قالوا: لا؛ كان ذلك نقضاً لقولهم.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من قول الله في المنافقين، وما ضرب لهم من المثل في قوله: ?مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ?، فقال: ضرب مثلهم؛ ثم جهل فقال: خلقهم وكُفْرهم؛ فرجع عن الحق الذي نطق به في أول كلامه حين يقول: ضرب مثلاً. ثم قال: هل يستطيعون سماع الهدى، وقد وصفهم الله جل ثناؤه بالصمم والعمى؟(1/538)


فقولنا في ذلك: إن الله جل وعلا، لم يخلقهم كذلك، ولم يجعلهم عمياً، ولا عن سماع الخير والتقى صماً. وإن الله تبارك وتعالى ضرب لهم هذا مثلاً، فقال سبحانه: إن هؤلاء الذين أتاهم الهدى، وكشف لهم عن الحق الغطاء فأنار لديهم، وثبت في صدورهم، وأيقنوا أنه من عند خالقهم، فكفروا بربهم، وخالفوا أمر نبيهم، وآثروا ظلمتهم على ما أضاء من الحق لهم، فتركهم الله وخذلهم، ومثَّلهم إذ تركوا حظهم، وما أنار من الحق عندهم بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم. فكان الذي شبهه بضوء النار هو الهدى الذي أخرجه الله لهم، وامتن به عليهم، فتركوه ولم يتبعوه، ولم يستضيئوا بنوره وناصبوه وعاندوه، لا ما يقول الحسن بن محمد أن الله سبحانه فعل ذلك بهم، وجعلهم عن استماع الحق صماً وعمياً، وعن قبول الصدق حاجزاً، فجهل الفرق بين المثل والفعل. وكيف يجعلهم الله كذلك، ويخلقهم على ذلك، ثم يرسل إليهم نبيه يدعوهم إلى الهدى ويخرجهم من الحيرة والعمى، وهم عن الخروج ممنوعون، وعن الدخول في الحق مصروفون؟ فالله سبحانه إذا أرسله يدعوهم إلى الخروج عما فيه أدخلهم وعليه - جل وعز عن ذلك - جبلهم!! فنسبوا في ذلك إلى الله الاستهزاء واللعب والإعماء والجهالة والخطأ والظلم لعباده، والفساد في بلاده!، كذب القائلون على الله بذلك، وضلوا ضلالاً بعيداً.
تم جواب مسألته(1/539)


المسألة الحادية والثلاثون: معنى قوله تعالى: ? إنما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا ?
ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله في الإملاء: ?وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا?[آل عمران:178]؛ فقال: خبرونا عن قول الله: ?وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ?، فقال: أخبرونا عن هؤلاء، ألله أراد بهم في إملائه لهم ليزدادوا إثماً، كما قال؟ فإن قالوا: نعم؛ نقض ذلك قولهم. وإن قالوا: لا؛ كذبوا.
تمت المسألة
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من قول الله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: ?وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ?، فقال: إن الله أملى لهم ليزدادوا في الكفر والاجتراء عليه، وليس ذلك كما قال، بل قوله أحول المحال، وسنشرح ذلك والقوة بالله ونفسره، ونذكر ما أراد الله إن شاء الله به.
فنقول: إن معنى إملائه لهم هو لأن لا يزدادوا إثماً وليتوبوا ويرجعوا، ومن وَسَن ضلالتهم ينتهوا، لا ما يقول أهل الجهالة ممن تحير وتكمه في الضلالة: إن الله أملى لهم كي يزدادوا إثماً وضلالة واجتراء. وكيف يملي لهم كذلك، وقد نهاهم عن يسير ذلك، فقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ?[الحجرات:12]، فنهاهم عن يسير الإثم وقليله، فكيف يملي لهم ليزدادوا من عظيمه وكثيره؟(1/540)


فأما قوله: ?لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا?، فإنما أراد سبحانه: لأن لا يزدادوا إثماً؛ فطرح (لا) وهو يريدها، فخرج لفظ الكلام لفظ إخبار، ومعناه معنى نفي، والعرب تطرحها، وهي تريدها، وتثبتها وهي لا تريدها، قال الله سبحانه: ?لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ?[الحديد:29]، فقال: ?لِئَلاَّ?، فأثبت (لا) وهو لا يريدها، فخرج لفظ الكلام لفظ إيجاب، ومعناه معنى نفي، أراد سبحانه: ليعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله. وهذا فموجود في أشعارهم مثبت في أخبارهم. قال الشاعر:
فعجلنا القِرَى أن تشتمونا
نزلتم منزل الأضياف منا
فقال: فعجلنا القرى أن تشتمونا، وإنما معناه: فعجلنا القرى لأن لا تشتمونا؛ فطرح (لا) وهو يريدها، فخرج لفظ الكلام بخلاف معناه، وقال آخر:
ويصدق القول ولا يحول
ما زال ذو الخيرات لا يقول
فقال: لا يقول؛ فأتى بـ(لا) وهو لا يريدها، ولأن معناها: ما زال ذو الخيرات يقول؛ فخرج اللفظ خلاف المعنى.
تم جواب مسألته(1/541)


المسألة الثانية والثلاثون: معنى قوله تعالى ?أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ?
ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله عز وجل في الإغفال: ?وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا?[الكهف:28]، فقال: أخبرونا عن هذا الذي أغفل الله قلبه عن ذكره، هل أراد الله أن يطيعه؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا وجحدوا. وإن قالوا: لا؛ فقد نقض ذلك قولهم.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ?وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا?، فقال: خبرونا عن هذا الذي أغفل الله قلبه عن ذكره هل أراد الله أن يطيعه؟ فتوهم - ويله وغوله إن لم يتب من الله ويحه!! - أن الله تبارك وتعالى أدخله في الغفلة، وحال بينه بذلك وبين الطاعة، فليس كما توهم. ألا يسمع إلى قول الله عز وجل: ?وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا?، فأخبر سبحانه أنه متبع في ذلك لهواه ضال عن رشده، تارك لهداه، ولو كان ذلك من الله لم يكن العبد مُتبِعاً لنفسه هواه، بل كان داخلاً لله فيما شاء وارتضى، وسنفسر معنى الآية إن شاء الله، والقوة بالله وله. إن الله تبارك وتعالى نهى نبيه عن طاعة من أغفل قلبه ممن آثر هواه على هداه. وأما معنى ما ذكر الله سبحانه من الإغفال، فقد يخرج على معنيين، والحمد لله شافيين كافيين:
أحدهما: الخذلان من الله والترك لمن اتبع هواه وآثره على طاعة مولاه، فلما أن عصى وضل وغوى، وترك ما دل عليه من الهدى استوجب من الله الخذلان، لما كان فيه من الضلال والكفران، فغفل وضل وجهل إذ لم يكن معه من الله توفيق ولا إرشاد، فتسربل سربال الغي والفساد.(1/542)

108 / 172
ع
En
A+
A-