وقال سبحانه يحكي عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال لأبي بكر إذ هما في الغار من المشركين مختفيان، إذ هلع أبو بكر وحزن وجزع، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ?لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا?[التوبة:40]، فنهاه عن الحزن. ولو كان الهلع والحزن والجزع تركيباً في الإنسان من الله الواحد ذي السلطان، لما أمره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتركه، ولما قدر على رفض ما كان فيه من ربه، ولكان من هلع وجزع عند الله كمن أطاع وصبر وسمع، إذ هما من الله فِعل في العالمين، وهم - إن كان ذلك - طراً مطيعون، إذ هم في كل ما صرفوا متصرفون.
ولو كان ذلك فعلاً من الله فيهم، وكان على ذلك خلقهم لم يلمهم ولم يعاقبهم على الجزع والجبن، والانهزام وتولية الأدبار، عند لقاء الفسقة الأشرار، وذلك قوله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلا مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ?[الأنفال:16]، فكيف يوجب الغضب عليهم ويجعل النار مأواهم على فعل ما عليه خلقهم وسواهم؟! تعالى الله عن ذلك وتقدس أن يكون كذلك، بل ذلك فعل منهم، ولذلك رجع وباله عليهم، فمن كان لله مريداً صبر عند المحنة، ومن كان عنه بعيداً هلع، وعند النوازل جزع، وإنما يكون ذلك على قدر اليقين والتسليم لله من المؤمنين.(1/533)


ومن ذلك يوم حنين حين انهزم المسلمون وجزعوا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين ثبتوا، ثم ناداهم الرسول فرجعوا، أفيقول الحسن بن محمد: إن الله سبحانه خلقهم جزعاً، فانهزموا لما خلقهم عليه من الجزع، ثم ناداهم الرسول فاستحيوا منه، فكَرَّوا، وعن خلق الله الذي خلقهم عليه غيَّروا، فتركوا ما ركب الله فيهم من الجزع والجبن؟! أم يقول: إن الله عز وجل خلقهم في أول الأمر جزعاً هلعاً، ثم نقل خلقهم آخر، فجعلهم صبراً؟! لقد ضل إذا ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً، بل ذلك منهم كله أوله وآخره، ولذلك أثيبوا على الرجوع، ولو لم يرجعوا لعوقبوا على الذهاب والشسوع. فليفرق من عقل بين ما أخبر الله سبحانه عنه، وبين ما فعله وجعله، فبينهما ولله الحمد فرق عند ذوي العقول عظيم، وأمر واضح في اللسان بيِّن جسيم.
تم جواب مسألته(1/534)


المسألة التاسعة والعشرون: معنى قوله تعالى: ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ?
ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه حين يقول للمؤمنين: ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ?[الأنفال:21]، هل كان هؤلاء الذين ذكر يستطيعون أن يقبلوا الهدى، وأن يسمعوا المنفعة في دينهم؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا وجحدوا. وإن قالوا: لا؛ كان ذلك نقضاً لقولهم.
تمت مسألته
[جوابها:](1/535)


وأما ما سأل عنه من قول الله: ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ?، فتوهم أنهم كانوا لا يسمعون لصمم جعله الله سبحانه في آذانهم، أو لسبب جعله حاجزاً بين الهدى وبينهم، وليس ذلك - والحمد لله - كذلك. ولو كان الله فعل ذلك بهم لما عاب صممهم، ولكان أعذر لهم من أنفسهم، ولما بعث إليهم المرسلين، ولا أمرهم باتباع المهتدين. وإنما أراد الله سبحانه بذلك حض المؤمنين على الطاعة لرب العالمين، والاستماع لسيد المرسلين، فقال للمؤمنين: ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ?، يقول: لا تكونوا كالذين قالوا: أطعنا بألسنتهم وهم كاذبون في قلوبهم، بل قلوبهم منكرة لذلك جاحدة له، يدارون بالقول خوفاً من المؤمنين والرسول، ويكفرون من ورائه بكل الدين والتنزيل، وهم الذين قال فيهم الرحمن الجليل: ?وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إنا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ?[البقرة:14]، وقال: ?يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ?[الفتح:11]، وهم الذين قال الله فيهم من منافقي قريش والأعراب وغيرهم: ?إذا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ?[المنافقون:1]، فنهى المؤمنين عن مشابهة المنافقين، ولم يكن قوله ما قال إخباراً منه بتركيب ما ذمه منهم فيهم. ولو كان الله سبحانه فعله فيهم لما نهى المؤمنين عن ذلك، إذ هو فعله لا فعلهم، فكيف ينهاهم عن أن يفعلوا فعله، ولو جاز أن ينهاهم عن فعل ما فعله فيهم لكانوا مقتدرين على أن يفعلوا كفعله، إذا لخلقوا كخلقه، ولو خلقوا كخلقه لامتنعوا بلا شك مما يكرهون من أفعاله، من موتهم وابتلائه إياهم بما يبتليهم به، وليزيدوا فيما(1/536)


آتاهم مما يحبونه، فتعالى من هو على خلاف ذلك، والمتقدس عن أن يكون كذلك.
وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ?إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ?، فقال: هل كان هؤلاء يقدرون على أن يقبلوا الهدى؟ أو أن يسمعوا ما يُدلون عليه منه؟ فصدق الله سبحانه: ?إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ?[الأنفال:22]، يقول: الذين لا يهتدون إن هُدوا، ولا يقبلون الحق إن دُعوا، ولا ينتهون إذا نهوا، فضرب الله لهم ذلك مثلاً إذ كانوا في الضلال على هذه الحال، وهم في ذلك لقبول الحق مطيعون، وعلى اتباع الصدق مقتدرون، فلما أن تركوا ذلك شبههم بالصم البكم الذين لا يعقلون إذ تركوا فعل ما كانوا يطيقون.
تم جواب مسألته(1/537)

107 / 172
ع
En
A+
A-