وأما قوله جل جلاله: ?وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ?، فإنا نقول في ذلك بالحق المبين على رب السماوات والأرضين، فنقول: إن معنى قوله: ?وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ?، أي لا يزال أهل الحق لأهل الباطل مخالفين وعليهم في باطلهم وفسقهم منكرين، ?وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ? رب العالمين، وبه أمرهم سبحانه أكرم الأكرمين، فخلق جميع خلقه ليعبدوه لا ليعصوه، وأمرهم أن يطيعوه ولا يخالفوه، وأن يجاهدوا الكافرين كافة أجمعين حتى يفيئوا إلى طاعة رب العالمين، فخلقهم سبحانه لما شاء من ذلك وشاء ما أمرهم به، وأمرهم بما خلقهم له من طاعته ومجاهدة أعدائه والنصر لأوليائه، فقال سبحانه في ذلك: ?وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً?[التوبة:36]، وقال: ?قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ?[التوبة:123]، وقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1]، وقال: ?لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إن حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ?[المجادلة:22]، ففي كل ذلك يأمر المحقين بمخالفة المبطلين، وبالبراءة والعداوة للفاسقين الناكثين، وبالتحاب والتواصل والتبار والتواخي على الدين، ومن ذلك ما يقول جل جلاله أكرم الأكرمين: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ(1/528)
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[الحجرات:10]. وقد قيل في قوله: ?وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ? إنه مردود على ما ذكر من الرحمة، وكل ذلك والحمد لله فجائز أن يقال به على ذي الجلال والقدرة، لا ما يقول الضالون: إن الله عز وجل خلقهم للضلال والاختلاف، وركب فيهم العداوة وقلة الائتلاف. وكيف يكون ذلك والله يأمر بقتال من بغى وظلم وتجاهل وأساء حتى يفيء إلى البر والتقوى، وذلك قوله تبارك وتعالى: ?وإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?[الحجرات:9]، ففي هذا والحمد لله من الدلالة على ما قلنا ما أجزى وكفى.
تم جواب مسألته(1/529)
المسألة الثامنة والعشرون: معنى قوله تعالى: ?إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا?
ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن قول الله سبحانه: ?إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا?، فقال: خبرونا عن قول الله: ?إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا?، ثم استثنى أيضاً فقال: ?إلا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ?[المعارج:19]، فيقال لهم: ألا ترون أن الله عز وجل قد صنفهم صنفين، فمنهم من خلقه هلوعاً جزوعاً، ومنهم من لم يخلقه كذلك، فأخبرونا: هل يستطيع هذا الذي خلقه هلوعاً جزوعاً منوعاً أن يكون على غير ما خلقه الله عليه؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد زعموا أن الناس يقدرون على أن يبدلوا خلق الله الذي خلقهم عليه، وإن قالوا: لا؛ كان ذلك نقضاً لقولهم.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه، وتوهم أنه قد تعلق في شيء منه بحجة له من قول الله: ?إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إلا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ?، فقال: إن الله عز وجل قد صنفهم صنفين وخلقهم خلقين، فجعل منهم هلعين جزعين، وآخرين صابرين، ثم قال: هل يقدر من خلقه الله هلوعاً جزوعاً منوعاً أن يكون محسناً قوياً صبوراً؟ فقولنا في ذلك إن شاء الله بما هو الحق لا قول غيرنا.(1/530)
فنقول: إن الله جل ثناؤه لم يخبر عن فعله، ولا أنه خلق هلعهم، ولا جعل في ذي الصبر والإحسان صبرهم، وإنما أخبر سبحانه عن ضعف بنية الإنسان، وأنه لا يحتمل ما اشتد وصعب من الشان، فدل بذلك من ضعف بنية الآدميين، ومن قوة غيرهم من المخلوقين واختلاف طبائع المربوبين من الجان والملائكة المقربين على قدرة رب العالمين، وخالق السماوات والأرضين، وأخبر سبحانه أنه خلق خلقه أطواراً مختلفة، وجعل البنية فيهم غير مؤتلفة، فكلف كل صنف منهم دون ما يطيقه أضعفهم، فكلف الملائكة المقربين ما لم يكلف الجان أجمعين، (وكلف الإنسان دون) ما يطيق من الشأن. فكانت بنية الملائكة وطاقتهم خلاف بنية الجان وحالتهم، وكانت بنية الجان واقتدارهم خلاف بنية الإنس واستطاعتهم، وكذلك افتراق كل ما خلق رب العالمين، فكل ما خلقه فهو على تركيب رب العالمين ليس فيه تفاوت، كما قال تبارك وتعالى: ?مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ?[الملك:3،4]، وكذلك كل شيء خلقه سبحانه من الأشياء، وذلك كله فدليل على قدرة الرب الأعلى، وخالق الأرضين والسماوات العلى. فأخبر الله سبحانه عن بنية الإنسان بالضعف والسحاقة، ولم يكلفه في ذلك إلا دون الطاقة، فلذلك ما قال سبحانه: ?إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا?، يقول: جعل على بنية لا تطيق الأمر الشديد، فهو يهلع، ومن كل فادح يجزع، ثم قال: ?إلا الْمُصَلِّينَ?، وأخبر أن من كان لله مطيعاً من المؤمنين أصبر عند المحنة من الفاسقين، وأن المحنة لا يطيق لها ولا يقوم لها من الناس إلا ذوو الاصطبار من عباده الصالحين، وأمر سبحانه نبيه والمؤمنين بالصبر، فقال: ?وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ(1/531)
الأُمُورِ?[لقمان:17]، وقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[آل عمران:200]، فأمرهم بالصبر وحضهم عليه في كل أمر، ونهى من يطيق ويحتمل عن الوهن والعجز، فقال: ?وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا?[آل عمران:139]، وقال: ?فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ?[محمد:35].
ولو كان خلق الوهن وما كان من أفعالهم لما كان جزع ولا هلع ولا صبر، ولا عدد من أعمالهم، بل كان عمله سبحانه، لا عملهم، وفعله كل ذلك لا فعلهم.
ولو كان ذلك فعل الرحمن لما أثاب على صبره الإنسان. ألا تسمع كيف يقول ذو الجلال والقدرة والطول: ?بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ?[آل عمران:125]، وقال سبحانه: ?وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا?[الأحزاب:35]، فضمن للصابرين على الجهاد النصر، وللعاملين المؤدين للفريضة المغفرة والأجر.(1/532)