ومن ذلك قول إبراهيم صلى الله عليه لأبيه: ?يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا?[مريم:42،43]، فماذا يقول الكافرون وينسب إلى الله وإلى نبيه الضالون في هذا العلم الذي جاء إبراهيم؟ أتراه أتاه من العلم - إن كان الله قد خلق أباه للنار - أن أباه يقدر أن يخرج إلى غير ما خلقه الله له من النار حتى يصير إلى الجنان؟ أم يقولون إن العلم الذي جاء إبراهيم هو أن أباه - إن كان الله جل ثناؤه خلقه للشقاء، وحال بينه وبين الهدى - يقدر على مغالبة الرحيم، والخروج مما أعد له من الجحيم، والمصير إلى دار النعيم؟ والله سبحانه لم يخلقه لذلك، بل جبله على غيره ومنعه من رشده؟ أم تقولون في إبراهيم - الأواه الحليم الصديق الكريم - إنه دعا أباه إلى اتباعه وضمن له ما ضمن من إرشاده، ونهاه عن عبادة الشيطان الرجيم، وأمره بطاعة الرحمن الرحيم، وهو يعلم أن الله جل جلاله قد منعه من الخير، وأدخله إدخالاً في الشر والضير؟! فلقد إذا أمره بمغالبة ربه، وهجره واعتزله على غير ذنبه.(1/523)
ثم يقال لهم: خبرونا، وعما نسألكم عنه أجيبونا: هل بعث الله جل ثناؤه نبيه إلى الخلق طراً - فإنه يقول: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا?[سبأ:28] - يدعوهم إلى طاعته وينهاهم عن معصيته، أم بعثه إلى بعض ولم يبعثه إلى بعض؟ فإن قالوا: بعثه إلى الخلق طراً. فقل: فما دعاهم إليه؟ فإن قالوا: إلى الثبات على ما هم عليه من الكفر؛ كفروا. وإن قالوا: دعاهم إلى الإيمان. قيل لهم: فهل يقدرون على ذلك من الشأن؟ وقد جبلوا على قولكم على الكفران؟! فإن قالوا: نعم؛ تركوا قولهم. وإن قالوا: لا؛ جهلوا ربهم ونبيهم، إذ زعموا أن الله سبحانه بعث نبيه يدعو إلى الخير والهدى من لا يقدر على الاهتداء، ومن قد حال الله بينه وبين التقى، وهذا فأفحش أفعال الظلمة الجهال، وما لايجوز في الله ذي الجلال، أن يحول بين عبده وبين طاعته، ثم يرسل إليه ويأمره بمرضاته، وقد أخرجه منها وأدخله في ضدها، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلا.
تم جواب مسألته(1/524)
المسألة السابعة والعشرون: معنى قوله تعالى: ?وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ?
ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله عز وجل: ?وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ?[هود:118]، فيقال لهم: خبرونا عن هؤلاء الذين قال الله: ?وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ?، هل يستطيعون أن يكونوا على غير ما وصفهم الله به؟ وأن يتركوا ما خلقهم له؟ فإن قالوا: لا يستطيعون؛ فقد أجابوا وصدقوا. وإن قالوا: نعم، هم يستطيعون أن يكونوا على غير ما خلقهم؛ فقد كذبوا وخالفوا. وإن زعموا أن الله جل ثناؤه إنما خلق أهل الإيمان للرحمة، فنحن نقبل منكم ونصدقكم إن زعمتم أن الله جل ثناؤه خلق خلقاً من خلقه خصهم بالرحمة، فلا يستطيعون أن يكونوا على غير ما خلقهم؛ لأنه قد استثنى لهم.
تمت مسألته
[جوابها:](1/525)
وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ?وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ? فإنا نقول: إن معنى قوله: ?وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً? هو إخبار عن قدرته وإنفاذ ما شاء من إرادته. فأخبر سبحانه: أنه لو شاء أن يجعلهم أمة واحدة لجعلهم قسراً، ولأدخلهم في طاعته جبراً، ولكنه لم يرد قسرهم على ذلك، ولم يرد أن يدخلهم في الطاعة كذلك، للحكمة النيرة، والحجة الباهرة، ليثيب على عملهم المثابين، ويعاقب على اجترامهم المعاقبين، لا ما يقول به المبطلون ويذهب إليه الجاهلون من أنه لم يرد من العاصين الطاعة، ولم يكره من الفجرة المعصية، وأنه لو أراد ذلك منهم لفعلوه، ولو شاء أن يعبدوه لعبدوه، وقالوا على الله عز وجل الأقاويل الردية، و ضاهوا في ذلك قول الجاهلية حين قالوا: ?لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم?[الزخرف:20]، وقال سبحانه يكذبهم فيما وهموا من أنه يريد عبادة أحد دونه، أو أنه لا يشاء أن يعبدوه: ?مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إلا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ?[الزخرف:21]، ثم أخبر بما به عبدوا مَن يعبدون، ومَن به في ذلك يقتدون، فقال: ?بَلْ قَالُوا إنا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ?[الزخرف:22]، ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقول من كان قبلهم ممن أهلك بمثل قولهم، فقال: ?وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ?[الزخرف:23]، فكيف يقول الجهال، وأهل الغي والضلال إن الله سبحانه يشاء من عباده، أو لهم، الكفر، وقد يسمعون في ذلك قوله، ويرون ما نزل بإخوانهم(1/526)
على قولهم من نكير قولهم؟ أو لم يسمعوا الله سبحانه يقول: ?إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ?[الزمر:7]، فقال: ?إِن تَكْفُرُوا?، فأخبر بذلك أن الكفر فعل منهم ولهم، إذ نسبه سبحانه إليهم، وذكره عنهم، ثم قال: ?لا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ? فأخبر أنه لا يرضى ما كان من كفرهم. فكيف يقول الجاهلون في ربهم إنه قضى بما لم يرض لهم عليهم؟! فأكذبوا في ذلك رب الأرباب وعاندوه في كل الأسباب، فقالوا: إنه رضي بما قال سبحانه إنه لم يرضه، وقالوا: إنه سخط ما قال إنه رضيه فعاندوه في ذلك عناداً، وجاهروه بالمكابرة جهاراً ففي هذا والحمد لله من البيان ما يكفي عن ذكر غيره من الحجج والبرهان.(1/527)