ببلدكم. ثم أتى يهود خيب رر، فقال: إن قريشاً قد عاقدت محمداً عليكم، وآية ذلك أنها لا تبدأه بالمحاربة قبلكم، وأتى قريشاً، فقال لها: إن اليهود قد ظاهرت محمداً عليكم، وآية ذلك أنهم لا يبدأونه بالمنابذة قبلكم. فطرح في قلوب كل لكل بلاءً وحقداً ومخافة وشحناء، فأقام كل ينتظر أن يبدأ بالمحاربة غيره، فلما طال ذلك عليهم وتراسلوا بينهم يسأل كل كلاً أن ينصب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرباً، وكلهم يأمر صاحبه أن يبدأ، فصح لذلك عندهم قول الأشجعي، فتفرقوا، وفسدت قلوب بعضهم على بعض، فرحلت العرب طراً راجعة إلى بلدها، وأرسل الله سبحانه الريح على قريش واليهود، وأمد المؤمنين بالنصر منه، والجنود، فلم يقم لقريش خباء ولا ظل، ولا يستوقد لهم نار إلا أطفأتها الريح وفرقتها (وحرقتهم بها)، فأقاموا ثلاثاً لا يختبزون ولا يصطلون، فاشتد عليهم القر والجوع، ورماهم الله بالذل، فأزمعوا على الرجوع، ورحلوا راجعين وخاسرين خائبين نادمين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا?[الأحزاب:9]، فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقاتل بني النضير، إذ نقضوا عهده، وخالفوا أمره فحاصرهم حتى جهدوا، فقالوا: يا محمد، خلنا نخرج من البلد بما حملت إبلنا التي في الحضرة معنا من متاعنا ونخلي لك الباقي وما لنا من الضياع، وبشرط ألا نخرج بسلاح، ونترك الديار والنخل والقرى. فرضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فخرجوا بإبلهم عليها جيد متاعهم وتحف أثوابهم، فلما قلعوا التحف تهدمت وجوه البيوت، وذلك تدبير منهم ليخربوها عليهم، فكان أحدهم إذا هدم لحاف بيته بطل البيت، ثم خرجوا على الإبل بالتحف، فذلك قول الله سبحانه: ?هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ(1/518)


الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ?، فخرجوا جالين، ولنعمهم تاركين، وذلك قول أصدق الصادقين: ?وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ?[الحشر:3]، والتعذيب فهو القتل. فكان الرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو ما كان من خذلانه لهم حتى عمي عليهم رشدهم، وفاسدوا إخوانهم، ودخل الفزع عند ذلك من النبي والمؤمنين في قلوبهم، وأيقنوا أنه إذا علم بما كان من مظاهرتهم عليه وصاروا من الغدر به إليه أنه لا يتركهم وأنه يقاتلهم على فعلهم حتى يظهر الله عز وجل الحق، ويزهق الباطل من الخلق، وهذا معنى إلقاء الله الرعب في قلوب الفاسقين لما أرادوا من هلاك المؤمنين. وكذلك كان فعله بأهل خيبر حتى أخذوا وأسروا وقتلوا وسبوا، فهذا قولنا في إلقاء الله الرعب في قلوب الفاسقين، لا ما ذهب إليه من خالف المحقين، وعند من قول الصدق في رب العالمين.
تم جواب مسألته(1/519)


المسألة السادسة والعشرون: معنى قوله تعالى: ?وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ?
ثم أتبع ذلك المسألة عن الذرو بالإرادة، فقال: خبرونا عن الذرو بالإرادة، فإن الله يقول: ?وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ?[الأعراف:179]، فسلهم: هل يستطيع هؤلاء أن ينقلبوا عما ذرأهم الله له؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا، وزعموا أنهم يستطيعون أن يبدلوا خلقهم وإرادة الله فيهم. وإن قالوا: لا؛ كان نقضاً لقولهم.
تمت مسألته
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه من قول الله عز وجل: ?وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ?، فقال: هل يستطيع أحد أن يخرج أو ينتقل مما ذريء له وتوهم، بل قال: إن الله ذو الجلال والإكرام خلق لجهنم قوماً كافرين ذرأهم وأوجدهم ابتداء فاسقين، وخلقهم ضالين مضلين، لا ينفع فيهم دعاء، ولا يقدرون طول الزمان على الاهتداء؛ لما قد خلقووا له من الشقاء، فهم أبداً بفعل الفواحش مولعون، ولعمل الهدى غير مطيقين، وأنهم على ذلك مجبولون، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(1/520)


فنقول في ذلك على الله بالحق، والله الموفق لكل خير وصدق، فنقول: إن معنى الآية خلاف ما ذهب إليه الحسن بن محمد، وإن القول خلاف ما قال به فيه؛ بل معناه على الصدق والمعاد، لعلم الله بما يكون من العباد، فقال: ?ذَرَأْنَا?، فأخبر عما سيكون في آخر الأمر ويوم القيامة والحشر من الذرو الثاني لا الذرو الأول الماضي، فكذلك الله رب العالمين يذرأ لجهنم في يوم الدين جميع من مات على كفره من الكافرين فيعذبهم على فعلهم ويعاقبهم على ما تقدم من كفرهم، كما قال الرحمن الرحيم الرؤوف الكريم: ?كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ?[المدثر:42].
فهذا معنى ما ذكر الله من الذرو في الكتاب، لا ما ذهب إليه الحسن بن محمد ذو الشك والارتياب، من أن الله سبحانه خلق للنار خلقاً تعمل بالمعاصي أبداً، لا يقدرون على هدى ولا طاعة في سنة ولا شهر ولا يوم ولا ساعة، وأن الله سبحانه خلق للجنة أصحاباً مجبولين لله على الطاعة في كل الأسباب.(1/521)


فيا عجباً من قولهم المحال! وكذبهم على الله في المقال! فأين - ويحهم - المعاصي والطغيان ممن عمل بما ألزمه الله في كل شأن؟ بل كلٌ مطيع، وفي مراد الله سريع؟ فإن كان ذلك من الله كذلك، فَلِمَ بعث الأنبياء إليهم يدعونهم؟ وأوجب عليهم طاعتهم؟! وطاعة الأنبياء فهي العمل بطاعة الله، ومعصيتهم فهي المعصية لله، فقال الله سبحانه: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ?[النساء:59]، وقال: ?وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ?[النساء:13]، وقال: ?وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ?[الجن:23]، وقال: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ?[النسا:1]، وقال: ?فَفِرُّوا إلى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ?[الذاريات:50]، فأين الطاعة ممن جبل على المعصية؟ وأين الفرار ممن منعه منه الجبار؟ وكيف لا يعصى الرسول والرحمن الرحيم مَن قد حيل بينه وبين الإحسان !؟(1/522)

104 / 172
ع
En
A+
A-