فقولنا في ذلك: إن الله لم يكف أيديهم عنه جبراً، ولكنه ألقى في قلوبهم الهيبة له ولمن معه من الحواريين، وأعلم نبيه صلى الله عليه بما يريدون منه وما يريدون فيه، فحذرهم واستعد بمن معه لهم، فخافوهم وحذروهم فلاشى عزيمتهم وأبطل في ذلك إرادتهم، ومنَّ على نبيه صلى الله عليه بما ألقى له ولِلْحقِّ في قلوبهم من الهيبة والمخافة، فرجعوا خائبين، ومما أرادوا مؤيسين، وأعز الله سبحانه المؤمنين، وكبت الفاسقين. فهذا إن شاء الله معنى ما ذكر الله من كف أيديهم عن عيسى بن مريم صلى الله عليه بينهم، والمظهر للحق فيهم، والمطلق لهم بعض الذي حرم عليهم، المبرئ لأكمههم وأبرصهم، الشافي لسقيمهم، والمحيي لميتهم، والمنبي لهم عما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، (وتلك فأعظم) آيات ربهم وبراهين خالقهم، فلما عتوا عن أمر خالقهم، قال حين ذلك نبيهم صلى الله عليه وسلم: ?مَنْ أَنصَارِي إلى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ?، وأعوانك وأنصارك وخدامك، فآمن معه من بني إسرائيل الحواريون، وكفر سائر الإسرائيليين، فأيد الله المؤمنين فأصبحوا كما قال الله: ?ظَاهِرِينَ?، حين يقول عز وجل: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إلى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ?[الصف:14]، فهذا قولنا في رب العالمين، لا كقول الجاهلين الذين نسبوا إلى الله عز وجل أفعال العباد، وقلدوه ما يكون في ذلك من الفساد، فتعالى الله الواحد الرحمن عن زخرف أقاويل الشيطان، المضاهين لمذاهب عبدة الأوثان، وما حكى فيهم الرحمن من قولهم: ?لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ?[النحل:35]...(1/513)
الآية.
تم جواب مسألته(1/514)
المسألة الخامسة والعشرون: معنى إلقاء الرعب وقذفه
ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه: ?سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا?[آل عمران:151]، وقال في سورة الحشر: ?وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ?[الحشر:2]، وقال: ?وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا?[الأحزاب:26]، فأخبرونا عن الرعب الذي قذف الله في قلوب الكافرين، هل كانوا يستطيعون أن يمتنعوا منه، وأن يصرفوه عن قلوبهم؟ فإن قالوا: لا، كان ذلك نقضاً لقولهم. وإن قالوا: نعم، فقد كذبوا كتاب الله، وزعموا أن العباد يمتنعون من الله. وإن قالوا: إنما صنع الله ذلك بهم بكفرهم. فقل: ألستم تعلمون أن الرعب شيء لطيف لا يراه الناس، ولا يردونه، ولا يمتنعون منه حين يدخل في قلوبهم، فيوهن الله بذلك كيدهم، وينقض قولهم؟ فإن قالوا: نعم. فقل: وكذلك أيضاً التوفيق، شيء لطيف لا يراه العباد، يلقيه الله في قلوب المؤمنين، وأمور الله كلها كذلك، من أراد به خيراً وفقه وسدده وأرشده، وكان ذلك عوناً من الله لهم، ومن أراد به سوءاً ثبطه وعوقه وخذله وتركه وهواه، ووكله إلى نفسه؛ فوكله إلى الضعف والهوان، والله غالب على أمره.
تمت مسألته
[جوابها:](1/515)
وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ?سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا?، فإنا نقول: إن الرعب إنما ألقاه الله جل ثناؤه في قلوبهم نكالاً وانتقاماً منهم على كفرهم وإشراكهم، ألا تسمع كيف فسر آخر الآية أولها، فقال: ?بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ?، فكذلك الله سبحانه انتقم منهم بما أشركوا وكفروا وخذلهم وتركهم من التسديد والتوفيق، فهلكوا وتلاشوا؛ وعندوا فضلوا، وهانوا فتفرقوا، إذ وكلهم إلى الضعف من أنفسهم، وإلى حولهم وقُوَّتهم؛ فهانوا ورعبوا من القتال ولقاء المؤمنين في تلك الحال، فكان تركهم لهم بما قدموا من شركهم رعباً داخلاً في قلوبهم مخامراً لصدورهم.(1/516)
وأما ما ذكر من قول الله سبحانه في بني النضير من اليهود: ?وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ?، فكذلك فعل الله بهم، وذلك أنهم كانوا قد هادنوا الرسول عليه السلام، وخضعوا لأهل دعوة الإيمان والإسلام، حتى كان يوم الأحزاب فجاءت قريش ومن تحزب معها من العرب من اليمن ومضر، وأمدهم في ذلك يهود خيبر يقاتلون الرسول والمؤمنين مع أعداء الله الفاسقين، فلما أتى يهود خيبر أرسلوا إلى يهود بني النضير فوعدوهم أن يقاتلوا الرسول من ورائه إذا حميت الحرب بينه وبينهم، فنزلت بنو عامر أُحد من فوق المؤمنين، ونزلت قريش بطن الوادي من أسفل منهم، وكانت اليهود - يهود خيبرر - قِبل المسلمين مما يلي الحرة، وبنو النضير من وراء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك ما يقول الله عز وجل: ?إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا?[الأحزاب:10]، فكان فيمن نزل أحد من العرب رجل أشجعي يحب الإيمان ويبغض أهل العدوان، فأفسد بين المشركين طراً، وذلك أنه أتى قريشاً فقال لها: إن العرب قد ظاهرت محمداً عليكم، ووعدته المحاربة معه لكم، وآية ذلك أنهم لن يبدأوه بالمحاربة، فخذوا حذركم ولا تبدأوه حتى يقاتلوه قبلكم. ثم أتى أصحابه وبني عمه وجماعة العرب، فقال: إن قريشاً قد عاقدت محمداً عليكم، وعلامة ذلك أنهم لن يبدأوه بالمحاربة قبلكم فاعملوا لأنفسكم ودبروا أموركم، ولا تقاتلوا حتى ترسلوا إليهم فيقاتلوا قبلكم، فإن فعلوا وإلا فاحذروا مكرهم والحقوا وشيكاً(1/517)