المسألة العشرون: معنى إغراء الله تعالى بين خلقه في قوله تعالى: ?فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ?
ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة، فقال: خبرونا عن الإغراء بالإرادة دون الأمر، فإن الله يقول: ?وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إنا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ?[المائدة:14]، فسلهم: هل كان هؤلاء يستطيعون أن يخرجوا مما صنع الله بهم، وأن يتركوا العداوة بينهم؟ فإن قالوا: نعم، كذبوا كتاب الله؛ وإن قالوا: لا؛ كان ذلك نقضاً لقولهم.
تمت مسألته
[جوابها:](1/503)


وأما ما سأل عنه من الإغراء بالإرادة دون الأمر، فزعم أن الله جل ثناؤه يأمر بما لا يريد، ويريد من الأشياء ما لا يشاء كينونته، فأخطأ في قوله وأمره، ونسب الجهالة في ذلك إلى ربه، ورضي فيه بما لا يرضاه في نفسه، ولا يراه حسناً من أمته وعبده، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ألا ترى أن الآمر بما لا يشاء من أجهل الجاهلين؟ وعن الحكمة من أبعد المبعدين؟ فكيف اجترأ الحسن بن محمد على رب العالمين، فنسب إليه أشد ما يعاب به المربوبون؟ ثم احتج في قوله، وسطر أفحش القول في ربه، فقال: قال الله: ?وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إنا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ?، فقال: إن الله تبارك وتعالى أغرى بينهم ولم يرد الإغراء، ولم يأمر بالإغراء، وأدخلهم من ذلك فيما لم يشأ. وليس ذلك كما قال، وأول الآية يدل على عدل الله في ذلك حين أخبر بما كان منهم، وذكر من الترك والرفض لما أمروا بأخذه، والأخذ لما أمروا بتركه، فلما أن فعلوا من ذلك ما عنه نهوا، استأهلوا من الله سبحانه الترك والخذلان بما كان منهم لله من العصيان، فترَكهم من الرشد والتوفيق فضلَّوا، وعن الخير والصلاح في كل أمرهم عموا، والبر والتواصل تركوا، فغَرِيت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، ونشأ على ذلك خلف من بعد خلف، فكان ذلك لسبب خذلان الله لهم وسخطه عليهم لذلك، فلما كان ذلك كذلك جاز أن يقال: إن الله أغرى بينهم العداوة، وبكل ضلال قالوا، فنسب المسيح منهم قوم إلى أنه رب، ونسبه قوم آخرون إلى أنه ابن للرب، وقال آخرون بما قال في نفسه إنه عبد الله حين أخبر عنه بقوله حين أشارت إليه أمه، قال الله جل ثناؤه: ?فَأَشَارَتْ إليه قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي(1/504)


نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا?[مريم:29]، فلما أن اختلفوا وعلى الحق لم يأتلفوا، كفر بعضهم بعضاً، وبريء فاسق من منافق، ومنافق من فاسق، وخذلهم الله فيه، ولعنهم سبحانه عليه، غريت بينهم العداوة إلى يوم القيامة، فلما كان عز وجل الذي خذلهم فضلوا، وتركهم فهلكوا، قال: ?فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ?، وهذا ولله الحمد في اللسان معروف.
تم جواب مسألته(1/505)


المسألة الحادية والعشرون: معنى قول الله تعالى: ?وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ...?
ثم أتبع ذلك المسألة، فقال: خبرونا عن قول الله: ?وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ?[الفتح:24]، وذلك يوم الحديبية؛ فسلهم: هل كان واحد من الفريقين يستطيع أن يبسط يده إلى أخيه، والله عز وجل يخبر أنه قد كف بعضهم عن بعض بإرادة لا بأمر؟ فإن قالوا: نعم، قد كانوا يستطيعون أن يقاتل بعضهم بعضاً؛ كذبوا كتاب الله عز وجل. وإن قالوا: لا؛ فهذا نقض لقولهم.
تمت مسألته
[جوابها:](1/506)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: ?وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ?، فقال: هل كان يستطيع أحد أن يمد يده إلى عدوه، وقد كف الله سبحانه أيدي حزبه من رسوله والمؤمنين عن حزب الشيطان الفاسقين، وأذن لرسوله وأطلق له مهادنة قريش، ومن معهم من المشركين نظراً منه سبحانه للمؤمنين، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما أن طلبته قريش منه، ولو لم يأذن الله له عز وجل في ذلك لم يفعله، ولم يك ليرجع يوم الحديبية حتى يقاتلهم، وعلى الحق وبالحق ينازلهم، ولقد أراد ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، وبايع أصحابه على الموت فيه بيعة ثانية، وهي البيعة التي ذكر الله عن المؤمنين ورضي بها عنهم، وأنزل السكينة عليهم وصرف القتال وكف أيدي الكل من الرجال بما أطلق لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم من إجابته لهم إلى ما طلبوا من المهادنة في ذلك العام، والرجوع عنهم، والدخول في السنة المقبلة إلى البيت الحرام. فأطلق له الرجوع عنهم والترك لمقاتلتهم لما ذكر سبحانه، فمن كان بمكة ممن كان مكة من المؤمنين والمؤمنات لأنْ لا يطأوهم فيقتلوهم بغير علم فيصيبهم منهم معرة عند الله بالحكم، والمعرة هاهنا فهي الدية لا ما قال غيرنا به فيها من الإثم. وكيف يأثم من بر وكرم وقاتل على الحق - كما ذكر الله عز وجل - من خالفه من الخلق فقتل مؤمناً بغير علم ولا تعمد؟ وهو فإنما قتله وهو يحسبه كافراً، ويظنه في دين الله فاجراً؟ فهو والحمد لله في ذلك غير آثم ولا متعمد في فعله ولا ظالم، ولكنه مخطئ فعليه ما على مثله، وهو ما ذكر الله في قوله حين يقول: ?وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ?[النساء:92]، وإنما جعل عليه العتق والدية تعظيماً لقتل المؤمن وتشديداً على المؤمنين في التثبت والتبين عن قتال(1/507)

101 / 172
ع
En
A+
A-