وأما قوله: ?وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ?، فإن ذلك مردود على أول الآية، وهو مُقدَّم في المعنى، وكثير مثل ذلك على ما يكون على التقديم والتأخير، يعلمه من عباده العالم الخبير، فمعناه: أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وعبد الطاغوت، وجعل منهم القردة والخنازير؛ أراد أن من عبد الطاغوت فهو شر من ذلك، فهذا موضع ما ظن من ?عَبَدَ الطَّاغُوتَ?، ألا ترى كيف أهلك من كان كذلك؟ ومن اجترأ من الخلق كاجتراء أولئك.
وكذلك قولنا فيما توهم وذهب إليه، فأهلك وهلك، ولله الحمد فيه، فقال: إن الله جعل في المجرمين ذلك وابتلاهم به وحملهم عليه؛ ثم احتج في ذلك من قول الله عز وجل - بما عليه لا له - فقال: قد قال الله فيما قلنا وبه تكلمنا: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إلا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ?، فقال: ألا ترون أن الله قد جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، فقد جعلهم مكارين، وقضى به عليهم، وركبه فيهم.(1/498)


فقولنا في ذلك: أنَّ جَعْل الله لهم هو خلقه لهم، وتصويرهم في كل قرية كما صور غيرهم. وأما قوله: ?لِيَمْكُرُواْ?، فإنما أراد الله سبحانه: لأنْ لا يمكروا؛ فطرح (لا) وهو يريدها استخفافاً لها، والقرآن فبلسان العرب نزل، وهذا تفعله العرب تطرح (لا) وهي تريدها، وتأتي بها وهي لا تريدها، فيخرج اللفظ بخلاف المعنى؛ يخرج اللفظ لفظ نفي وهو إيجاب، ويخرج لفظ إيجاب وهو معنى نفي، قال الله عز وجل: ?لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ?[الحديد:29]، فقال: ?لِئَلاَّ?، فخرج لفظها لفظ نفي ومعناها معنى إيجاب، فأتى بـ(لا) وهو لا يريدها، وإنما معناها: ليعلم أهل الكتاب. وقال: ?إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ?[آل عمران: 178]، فخرج اللفظ لفظ إيجاب ومعناها نفي، يريد سبحانه: لئلا يزدادوا إثماً.
وقال الشاعر:
ما زال ذو الخيرات لا يقول .... ويصدق القول ولا يحول
فقال: لا يقول؛ وإنما يريد: يقول؛ فأدخلها وهو لا يريدها، ووصل بها كلامه ليتم له بيته استخفافاً لها. وقال آخر:
بيوم جدود لا فضحتم أباكم .... وسالمتموا والخيل يدمى شكيمها
فقال: لا فضحتم أباكم؛ وإنما يريد: فضحتم؛ فأدخلها وهو لا يريدها. وقال آخر:
نزلتم منزل الأضياف منا .... فعجلنا القِرَى أن تشتمونا
فقال: أن تشتمونا؛ فخرج لفظها لفظ إيجاب في قوله: أن تشتمونا؛ ومعناها معنى نفي، أراد: لأن لا تشتمونا.(1/499)


وأما ما قال وذكر، واحتج به مما لا يعرفه وسطر، فقال: قال الله في قوم فرعون: ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ?، وادعى على الله سبحانه أنه جعل من كان كذلك منهم كافراً، ومن كان منهم كافراً فاجراً، وأنه طبعهم على ذلك، وفيه ركبهم وخلقهم، وليس ذلك والحمد لله على ما ذكر، ولا على ما قال وخبر، وهذا يخرج من الله على معنيين عدلين محققين:
أحدهما: أن يكون جَعْله لهم هو ما أوجده منهم وخلقه من أجسامهم، لا ما ذهب إليه من فعل أفعالهم.
والمعنى الآخر: أن يكون ذو الجلال والإكرام حكم عليهم بما يكون منهم من أعمالهم ودعائهم إلى خلاف طاعته من الكفر به والصد عن سبيله، وما كانوا يفعلون ويجترئون به على الله، فكانت حال من يطيعهم على كفرهم ويشركهم في فعلهم، ويدعوهم إلى غيهم عند الله كحالهم. فلما أن دعوا إلى ما يقرب إلى النار مما كان يفعله الفجار، كانوا أئمة يدعون إلى الجحيم، فحكم عليهم بفعلهم العليم، ودعاهم وسماهم به الرحمن الرحيم، فكان دعاؤه إياهم بذلك من فعلهم، وتسمية لهم بما دعوا إليه إخوانهم من النار، جعلاً في مجاز كلام العرب، كما يجوز أن يقال لمن قال لصاحبه يا حمار: جعلته ويحك حماراً؛ وإنما يراد بذلك تسميته لا خلقه، وكذلك إذا دعاه بالضلال، قيل: جعلته ضالاً، إذ قد سميته به.(1/500)


فأما ما قال وتوهم أنه إذا خرج في اللفظ شيء كان كذلك في المعنى، فقال: وقد قال الله سبحانه: ?وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ?، فتوهم الحسن بن محمد على الله تبارك وتعالى أنه الفاعل لكل ذلك، وليس ذلك والحمد لله كذلك، وسنفسره إن شاء الله ونبينه وبالحق نميزه. فنقول: إن معنى قوله جل جلاله: ?جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا? هو كما قال سبحانه: هو الذي خلق الخشب والحجر والماء والمدر، هو دلَّهم على ذلك، وهم بنوا وعملوا المساكن وكل ما صنعوه من الأماكن؛ وهو جعل وخلق الأنعام وجلودها، وهم عملوها بيوتاً. ولو لم يخلق الجلود لم يقدروا على عمل ما ذكر من البيوت؛ وكذلك لو لم يخلق الحجر والخشب والمدر لم يبنوا بيوتاً يسكنونها ولا دوراً يأوونها. وكذلك السرابيل التي تقي الحر وقت الحر، وتقي القر وقت القر، وكذلك السرابيل اللباس التي تقي وتحرس من البأس، فالله عز وجل أوجد حديدها ودلَّهم على عملها، وهم يتولون فعلها وسردها وتأليفها ونسجها.(1/501)


وأما ما ذكر من قول الله جل ثناؤه: ?وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا?، فكذلك فعل عز وجل، فهو المتولي لذلك، لم يفعله غيره، وهو جاعله، فجعل من الأكنان وقاء أوفى من البنيان؛ وجعل من الظلال لما خلق من الأشجار وغيرها من الجبال ما تبين فيه القدرة والمنة لذي الجلال. فما كان من فعل العباد فخلاف أفعال ذي المنة والأياد؛ وما كان من فعل الرحمن فخلاف فعل الإنسان، لا كما يقول المتكمهون الجهال: الله سبحانه والعبيد سواء في الأفعال، كذب المبطلون.
تم جواب مسألته(1/502)

100 / 172
ع
En
A+
A-