فأما قوله: هو كلام فهو لا شك كلام، فأما قوله إذا فرغ القارئ فقد بطل، فإنما تبطل التلاوة التي يحمد عليها العبد، ويذم إذا تلى على غير الشرط الذي أمر به، فأما المتلو الذي هو المقطع تقطيعاً مخصوصاً فلا يجوز عدمه إلى انقطاع التكليف لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)) فأخبر سبحانه ببقاء الكتاب العزيز وملازمة العترة الطاهرة له، لا كما قال المطرفي الكافر.
وأما قوله: لو بقي لكان يبقى وكان للبقاء بقاءً فلعذر فيما نظن عجيب في نفسه في هذه المغالطة وهذه من إحدى دقائقه الظاهرة، لأن البقاء هو استمرار الوجود والموجود لا يخرج عن الصفة إلا بالضد وما يجري مجراه ولا ضد هاهنا ولا ما يجري مجراه، فتفهم هذا أيها المدقق إن كنت ممن يفهمه.
وأما إلزامه بالمصحف إذا نسخ فلقد أوغل في النظر، وجاء بإحدى الكبر، أوليس التكليف به عام، وقدرة الله سبحانه وحكمته توجب إبلاغ الحجة، وإبلاغ الحجة توجب كونه في أكثر من جهة إذ لو اختص بجهة لما كانت حجته إلا حيث اختصاصه، وذلك لا يقول به مسلم؛ ولأن بدعيا لو ادعى في الإسلام قبل نجوم المطرفية وأس كفرهم بالتدريج الذي فعلوه كما فعلت الباطنية في مذهبها، وقال هذا القرآن كلامي لقتله أول من لقيه من المسلمين، لأن المعلوم لهم ضرورة أنه كلام الله والعلم بأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يدين بأن القرآن كلام الله ضروري لنا.(1/26)
وقول المطرفي أنه لنا اختياري فهو بناءً على أصله الفاسد: أن علوم العباد اختيارية، وعندنا أنها تنقسم إلى ضروري واختياري وليس هذا موضع تفصيله والآثار في أن هذا القرآن الذي بين أظهرنا هو القرآن ظاهرة متواترة من أنه المعلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة فجرى مجرى الأصول، كعلمنا أن البيت الذي يجب الحج إليه والطواف به هو الكعبة حرسها الله تعالى، فلو أن إنسان قال هو غيره لكفرته الأمة، ومن ذلك إجماع الأمة على أن هذا الموجود بين أظهرنا حجة لنا وعلينا هو كلام الله ووحيه وتنزيله، والإجماع آكد الدلالة، ومن ذلك أنا نفخر على سائر أهل الملل وأمم الأنبياء ببقاء معجزة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف معجزات الأنبياء عليهم السلام فإنها عدمت عقب وجودها وبعدم الأنبياء عليهم السلام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، وشاهد مصدق، من جعله إمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)) فهل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نجعل إمامنا موجوداً أو معدوماً، ومدحه الأئمة عليهم السلام، وإن شئت أيها المطرفي فإن الخطاب لكافة المسترشدين، رويت خطبة ما تقدمها في الهجرة خطبة واحدة وهي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رويناه عنه بالإسناد الموثوق به أنه قال بعد الخطبة الأولى: ((الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله(1/27)
وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من دينه في قلبه وأدخله في الإسلام، وبعد الكفر وأخباره على ما سواه من أحاديث الناس، أنه أبلغ الحديث وأحسنه، أحبوا ما أحب الله، أحبوا الله بكل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقسى عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي، وقد سماه خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أولى الناس، الحلال والحرام، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، والسلام عليكم)) تمت خطبته صلوات الله عليه وآله، وأمثال ذلك من كلامه صلى الله عليه وآله وسلم لا يحصى كثيره فهل حضهم على موجود أو معدوم أيها المدقق، وكلام علي عليه السلام والأئمة من ولده عليهم السلام لا تتسع الكتب بذكره، كلام القاسم عليه السلام في كتاب المدحين الكبير والصغير وسوى ذلك.(1/28)
المسألة الثانية عشر في بقية رؤية الألوان بأن الأعمى يدرك ما لا يرى كالحركة ؟
الجواب عن ذلك: أن بعض أهل العدل قد أثبت رؤيتها فيرتفع اعتراضه والحال هذه.
والثاني أن الحركة تعلم بانتقال الجسم من جهة إلى أخرى، والأعمى يدرك ذلك فيعلم الحركة وبماذا يدرك اللون من طريق غير الرؤية وما الطريق إليه؟ ولا طريق، فإن كان الطريق وقد صح العلم والعلم بما لا طريق إليه محال، فلم يبق إليه طريق إلا الرؤية وإلا بطل ما قد صح العلم به.(1/29)
المسألة الثالثة عشر في الأعواض
قال إذا كان الله تعالى يعوض كل فقير ومؤلم، والناس الكل منهم فقراء إلا من بلغ درجة لا تنال إلا لبعض الناس، فقد أوجب العوض للأغنياء الذين هم دون ذلك في المنزلة الرفيعة، وكذلك المؤلمين لأن أكثر الناس قد ألم، فإذا كان له فيالجنة والنار عوض واحد قال تعالى: ?وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى?[النجم:39].
الجواب عن ذلك: أن مذهب العدلية متقرر على وجوب العوض لكل مؤلم ومغموم إلا أن يكون الألم والغم مستحقان، ولا فرق بين أن يعم ما يجب فيه العوض الكل، أو يختص بالبعض ويرى به إسقاط العوض لعمومه للأكثر، لا وجه له لأنه ما وجب في الأقل من ذلك وجب في الكل للإجماع في العلة الموجبة للحكم، لأن الله تعالى بريء من الظلم، فإذا ألم العبد أو غمه كان عاصيا أو مطيعاً فلا بد من العوض ما لم يكن ذلك الغم والألم عقوبة فإن كان عقوبة فلا عوض والعوض في النار هو أن يسقط بما يستحق من أجزاء العذاب العقاب بقسطه يعلم وقوعها ولا يجد لذتها ويستوفي فلا يخفف عنه من المستحق بعد المسقط شيء كأن يستحق ألف جزء مثلاً فسقط على ألف وقت ويستوفي في العدل الباري سبحانه ولا يجد راحة بصدق وعيده بذكر ما له وهو الثواب فلا شك أنه ليس له من الثواب إلا ما سعى.
وإنما يتحقق الحديث في هذا مع من أثبت الألم والغم من فعل الله سبحانه، فأما من أنكر ذلك فالكلام معه فيه، فإذا قد ثبت لزم العوض بدلالة العدل.(1/30)