مسألة
قال أرشده الله: قالت الزيدية إن كل من لم يلتزم طاعة إمامه بعد انتشار دعوته جاز قتله وأخذ ماله، قال: وهذا خلاف الشريعة وسيرة الصحابة والخلفاء فإنه لا إشكال عند أهلها في أن من شهد الشهادتين، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وتشكك في إمامة إمام أو توقف عنه لشبهة فإنه حرام الدم والمال، وذلك مشهور عن علي عليه السلام في أمر عبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسعد بن أبي وقاص، بل في من خالفه كمروان بن الحكم، والوليد بن عقبة، وأشباههما حتى قال قيس بن سعد فيهما وفي الخوارج: ما منعنا من أخذهم وقتلهم يا أمير المؤمنين؟ قال: لا نمنعهم الصلاة في مساجدنا، ولا حقهم من الفيء ما غزوا معنا، ولا نبدأهم بالحرب ما لم يبدءونا، هذا معنى الحديث، وأشهر من هذا كلامه لابن الكوَّا حيث قال: أقسم بيننا الأموال والذراري –يعني في أهل الجمل – فقال عليه السلام: إنما نطق الشيطان على لسانكم فأيكم يأخذ عائشة في نصيبه.
الجواب عن ذلك: أن الكلام في هذه المسألة أن الزيدية مجمعة على أن الإمام لا تصح إمامته ما لم يختص بأمور، منها: العلم البارع الذي يبلغ به درجة الاجتهاد فيصير يفتي بالمسائل بعلمه ، ويجب على الأمة الرجوع إلى فتواه إذا ألزمها ذلك لأنه كالحكم، والحاكم إذا حكم باجتهاده وجب على الإنسان قبوله، وإن خالف اجتهاد نفسه -أعني المحكوم عليه- فتفهم هذا الأصل موفقاً لنرجع إليها ما نبني عليه.(1/162)


وأقوال الأئمة عليهم السلام في هذه المسألة تختلف وإن لم يقع فيها التفصيل، والذي عندنا أن الإمام إذا قام ودعا وجب على الأمة إجابة دعوته والانتقال إلى دار هجرته إلا من عذره أو وسع له أو كان قائماً في خدمته ، فإذا تمادى الناس على التأخر عنه والمعونة للظالمين بأقوالهم إما راضين وإما مغصوبين جاز له غزوهم وقتل مقاتلهم وأخذ أموالهم، لأن هذا حق له ، والقتال على الحقوق دقيقها وجليلها جائز ، قال أبو بكر بمشهد الصحابة: والله لو منعوني عناقاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه. ولم ينكر أحد من الصحابة فكان إجماعاً، وذلك لأن أهل الردة قالوا: نقيم الصلاة، ولا نؤتي الزكاة، ومن امتنع من إمام الحق وجب قتاله وقتله وأخذ ماله، وإنما قلنا: يجوز أخذ ماله لأن أخذه يكون عقوبة والعقوبة بالمال جائزة؛ لأنا روينا عن علي عليه السلام أنه أخذ طعام رجل محتكر في الكوفة، وقسمه نصفين، وحرق نصفه، وأمر بنصفه إلى بيت المال، فقال الرجل: لو ترك لي أمير المؤمنين مالي لربحت مثل عطاء أهل الكوفة، فانظر إلى كثرة هذا المال وفعل أمير المؤمنين عليه السلام فيه.(1/163)


وروينا بالإسناد الموثوق به إلى السيد أبي طالب عليه السلام، يرفعه إلى محمد بن عبد الله، قال الراوي: لقيته قبل خروجه لمدين، فقلت له: يا ابن رسول الله، متى يكون هذا الأمر؟ قال: وما يسرك منه؟ قال: قلت: ولما لا أستر بأمر يعز الله به المؤمنين ويخزي به الفاسقين. قال: يا أبا فلان، أنا والله خارج وأنا والله مقتول، ولكن والله ما يسرني أن لي ما طلعت عليه الشمس وإني تركت قتالهم، يا أبا فلان، إن امرأً لا يمسي حزيناً ويصبح حزيناً مما يشاهد من أفعالهم لمغبون مفتون. قال: قلت : يا ابن رسول الله كيف بنا ونحن مقهورون مضطهدون لا نستطيع لأفعالهم إنكاراً، ولا عليهم تغييراً؟ قال: فقال عليه السلام: اقطعوا أرضهم وقد علمت ما رد الله سبحانه على القوم الذين قالوا: (فيم كنتم ؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض) أفقبل تعالى عذرهم أم لم يقبل عز وجل ?أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا?[النساء:97].
فأما ما ذكره أرشده الله من أن الشريعة شرفها الله قضت بأن من نطق بالشهادتين وتشكك في الإمام فإنه حرام الدم والمال فهذا موضع الخلاف بين الأئمة والأمة، فكيف يسوغ لمن ينتحل العلم دعوى الإجماع.(1/164)


فأما ما عينه من محمد بن مسلمة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأمثالهم من المتخلفين عن علي عليه السلام وأنه لم يعرض لهم إلا بخير؛ فذلك فعل محتمل لا يدل على إثبات حكم، وذلك يجوز لأنه خشي الفتنة لو أوجب عليهم حالاً لكبر مكانهم ، وإذا كان معاوية على تأخره عن الرتبة العالية التي نزلها الصحابة رضي الله عنهم نازعه الأمر وشاقه وكثرت أتباعه على حربه فكيف أولئك وهم المحل الذي لا يجهل!! فرأى أن تركهم ما تركوه وأن يرضى منهم لاعتزالهم له ولمعاوية على أنه قد بلغ الاحتجاج عليه فما في هذا من حجة، وإن كان المتأخر عن الإمام تشككاً لا يخلوا إما أن يدعي أن وجوب الاتباع للأئمة واجب أو غير واجب، فإن قال: غير واجب خرق الإجماع، وإن قال: واجب، قيل: فهل جعل الله سبحانه له إلى معرفة إمامته طريقاً أم لا؟ فإن قال لم يجعل له طريقاً. قيل: هذا تكليف ما لا يعلم وهو قبيح، وإن قال: له طريق وجب أن يبينها إما ليسلكها معه غيره أو يبين له ضلالتها، فأما إذا تخلف عن الإمام، وقال: أنا متشكك في الإمامة، فيجوز أن يقول الثاني والثالث حتى يعم الأمر الجميع فسقط أمر الإمامة الذي قد انعقد الإجماع على ثبوته على مر الأيام.
فأما ذكره من مروان بن الحكم، والوليد بن عقبة فهو غلط في بابهما كبير.
أما مدة إقامتهما في المدينة فتسترا بالنفاق والبيعة، حتى نكث مروان يوم الجمل فيمن نكث وجيء به إلى علي عليه السلام فلما رآه يقاد، تمثل بقول الشاعر:
فإما تنفعوني فاقتلوني .... وإن أسلم فلست إلى خلود(1/165)


فسأل العفو وتشفع في بابه الحسن والحسين عليهما السلام فقالوا: يا أمير المؤمنين، بايعه قال: أو ليس قد بايعني في المدينة، وقد كان مروان بسط يده للبيعة فرده علي عليه السلام، وقال: أذهبها عني فإنها كف يهودية، ثم قال لأصحابه ليكون لهذا إمرة كلعقة الكلب أنفه وأنه لأبو الأكبش الأربعة فكان ذلك من ملاحمه عليه السلام.
وأما الوليد فلحق بمعاوية، وكان من أقوى أعوانه على أمره.
وأما الخوارج فالظاهر من حالهم أنهم خالفوا في المسائل المشهورة، وناظروا في المساجد ولم يكن جند العراق يومئذ لهم أموال في العراق لأن الجند عربي كله وهم مهاجرة من اليمن وغيره، وأهل العراق الفرس، وكان فيه الخراج على الأموال، والجزية على الرقاب، والجند مجرد للقتال، وفي الجند الخوارج من كل قبيلة وأكثرهم تهيم، وكان الظاهر منهم النفير مع علي عليه السلام، وما فصلوا من صفين إلى حرور أو إلى النهروان إلا من عساكرهم؛ لأن علياً عليه السلام لما رأى العساكر مزقت سأل عن ذلك؟ فقيل: فارقنا القرّاء، والعبّاد، والفقهاء في حديث طويل، وهم يعنون الخوارج ، فلما انفصلوا حاربهم بعد الاحتجاج وقتلهم لما ناصبوه وباينوه، ولم نعلم لو كانت لهم قرى ومزارع وأعانوا الظلمة ما كان رأيه فيهم، وإن شئت فقد اتضح لنا رأيه عليه السلام في من هذه حاله تصريحاً فإن أهل قرقيسا كان ميلهم إلى معاوية لكونهم عثمانية على أنهم كانوا موادعين غير حايلين بين عمال علي عليه السلام وبين فيض الخوارج، فسالمهم قيس بن سعد رحمه الله برأيه، وأمره علي عليه السلام بمحاربتهم فكره ذلك فكان سبب عزله، وتولية محمد(1/166)

33 / 170
ع
En
A+
A-