وأما قوله: إنه صفة من صفات الله تعالى القديمة فهذا بناء للفساد على الفساد، إذ المحصلون من آل محمد بل الأمة الوسط لا يثبتون قديماً سوى الله سبحانه، ولهذا تميز دين الحنيفية على دين النصارى في قولهم: (إن الله ثالث ثلاثة) وما أرادوا غير إثبات ذات و صفتين في الأزل، فصاروا مثله بذلك، فإن شاركهم غيرهم وزاد عليهم فثمّن أو عشّر، فقد رمى بنفسه في المهالك، فتحرز أرشدك الله عن ذلك.
وأما قوله: إن القرآن صفة، فلا يعقل في معنى القرآن إلا هذا الموجود بين أظهرنا حجة لنا وعلينا أمراً، ونهياً، ومجملاً، ومبيناً، وخاصاً، وعاماً، ومحكماً، ومتشابهاً، ووعداً، ووعيداً، وعبراً، وأمثالاً، وفرائض، وأحكاماً إلى غير ذلك من أنواعه زاده الله شرفاً وحده على مرور الأيام، ولا يعقل فيما هذا حاله أن يكون صفة وأن تكون قديمة، فكيف تكون الأمور المتغايرة قديمة؛ لأن الوعد غير الوعيد، والمحكم غير المتشابه، وكذلك في سائر الأنواع؛ فإن أثبت قرآناً غير هذا فلسنا ننازع إلا في هذا، ونقلنا الكلام معه إليه، وبينا أن إثبات صفة قديمة للباري لا تجوز إذ لا قديم سواه ولا رب غيره، ولو كان العلم والقدرة كما قال السائل لكانت أمثالاً لله سبحانه ولا مثل له تعالى؛ لأنه لو كان له مثل وقدر بينهما المنازعة التي تجوز وقوعها بين الاثنين كأن يريد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه أو تبييضه والآخر يريد تسويده، لكانت لا تخلو من أمور ثلاثة: إما أن يوجد مرادهما وذلك محال، وإما أن لا يوجد مرادهما معاً وذلك محال، وإما أن يوجد مراد أحدهما دون الآخر وذلك أيضاً محال(1/152)


لاستوائهما في كل حال فاعلم ذلك.
فأما قوله: إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فقال: ?أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ?[الأعراف:54] فلا شك في ذلك لأن الأمر أعم من الخلق وهي لفظة مشتركة يراد بها الغرض والبيان كما يقال: لأمر ما جدع قصير أنفه أي: لغرض وبيان، ويراد بها القدرة كما يقال: هذا أمر عظيم أي: قدرة عظيمة، ويراد بها الحال والجاه كما يقال: أمر فلان عظيم أي :جاهه وحاله، ويراد بها الخطب المهم، وكما يقال: أمرهم شورى بينهم أي: خطبهم وشأنهم ، ويراد الصيغ المخصوصة صيغة أفعل أو لتفعل على شرائط، والخلق على المعنيين الذين قدمنا فلذلك فرق بينهما، وليس بينهما دليل على ما زعمه السائل من قدم القرآن وأنه غير مخلوق بمعنى محدث.
وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: ((القرآن كلام الله ومن قال مخلوق فهو كافر)) فهذا الخبر غير صحيح، فإن صح فالمراد غير مكذوب، فمن قال: إنه مكذوب فهو كافر، ولا شك في ذلك عند الجميع، ويدل على حدوثه قوله تعالى إنه كلام الله؛ لأن الكلام فعل المتكلم، والمتكلم متقدم على الكلام، وما تقدمه غيره فهو محدَث، فتفهم ذلك موفقاً.(1/153)


مسألة
قال أرشده الله: قالت الزيدية وروافض الشيعة: إن الصحابة ضلوا وأضلوا الأمة في أمر الإمامة ولولا هم لما كان القتل بين أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا بتقديمهم أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان. قال: وإن علياً بزعمهم كان أحق الخلق بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ولديه ثم من صلح من أولاد فاطمة عليها السلام. قال: وهذا من أعجب أمورهم حيث أجمعت الأمة على بيعة أبي بكر، وبايع علي على رؤوس الأشهاد، ولا تخلو هذه البيعة لأبي بكر إما أن تكون بيعة حق فهو قولنا، أو بيعة باطل فقد بايعهم على الضلالة ورضي بها وهو بزعمهم معصوم من الزلل والضلال، ولو طلب عدو لعلي إسقاط منزلته لم يزد على ما قالوا، أو طلب تكفير جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشهود لهم بالجنة لم يزد على ما قالت هذه الفرقة، قال: وإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد وصححنا قولهم لم يبق شيء من أخبار الصحابة لخروجهم عن الإسلام بجحود نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق علي، وأبطلنا الشريعة لأنها مروية عن جميعهم منقولة عن سيرهم، كما لا نثق بما ورد عن سائر الكفار والضلال وأهل الردة، وأورد دليلاً آخر وهو: أن علياً عليه السلام دعاهم باسم الخلافة، واختار أحكامهم بالحدود واقتسم من الغنائم نصيبه، وجهّز بنيه عليهم السلام وبني هاشم ومواليهم مع عساكرهم وسراياهم، واستجاز الوطء من سباياهم، وإن المعلوم من السيرة أن الحسين أخذ بنت كسرى من يد عمر في نصيبه من الفيء فكره ذلك وأعطاها الحسين. قال: وهذه أحكام لا تصح إلا ممن يحكم بصحة إمامته، وقد قدم(1/154)


النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر لصلاة الجماعة وعلي في الحضرة، على أنّا لو قصدنا ما أوردته البكرية من النصوص لشغلنا عن المراد.
الجواب عن ذلك: هذه المسألة اشتملت على مسائل كثيرة، ونحن نجيب على كل مسألة على وجه الاختصار وبالله التوفيق.
أما قوله: إن الزيدية وروافض الشيعة زعموا أن الصحابة ضلوا وأضلوا في أمر الإمامة، وأنهم أصل الفرقة بين الأمة والقتل والقتال إلى يوم القيامة.
والجواب عن هذا الفصل أن هذه الدعوى على الزيدية غير صحيحة ولا مستمرة لأنها لا تزعم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم ضلوا وأضلوا؛ فكيف يعتقدون ذلك فيهم وهم خيار الأمة، وبهم أعز الله دينه، ونصر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهم حماة شرع الإسلام، وبدور الظلام، فجزاهم الله عنّا وعن الإسلام خيراً، وما سبب القتل والقتال بين الأمة إلا الشيطان، واتباع الهوى، وغلب حب الدنيا.
والله ورسوله والصالحون من أمته وهم صحابته رضي الله عنهم من ذلك أبرياء.
فأما ما ذكر من الإمامة فلها باب آخر، ومذهب الزيدية متقرر على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل علي بن أبي طالب، ولهم على ذلك أدلة كثيرة: منها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم : ((من كنت مولاه فعلي مولاه...)) الحديث بطوله، وعندهم أن الإمامة بعده في ولديه بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا -فصرح لهما بالإمامة- وأبوهما خير منهما))، وكذلك الإمامة عندهم بعدهما في أولادهما بدليل الإجماع من الأمة على ذلك.(1/155)


وأما قوله: إن الأمة أجمعت على إمامة أبي بكر فذلك غير مسلم، بل وقع النزاع في ذلك حتى كسر سيف الزبير واستخف بسلمان وعمار، وأوذي علي عليه السلام، وممن نازع خالد بن سعيد، وسعد بن عبادة، وهذا أمر يعلمه ضرورة من عرف الآثار وتتبع السير، وبايع علي بعد ذلك كرهاً لأن في الحديث أن عمر قال: بايع. قال: فإن لم. قال: ضربنا عنقك. ودون هذا إكراه عقلاً وشرعاً، ولا شك أنه إذا أكره كان الإكراه مجيزاً للفعل، وهو عليه السلام كان أكثر بالله علماً، وأشد لجلالته توقيراً من أن يجهل حرمة الإسلام وحق الدين، ومذهبنا أنه معصوم والدليل على ذلك أنه من أهل البيت الذين وردت فيهم آية التطهير وهي قوله: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33] فلا يخلو إما أن يريد تطهيرهم من درن المعاصي، أو قاذورات الدنيا، باطل أن يريد بذلك أمر الدنيا لأنهم مثل غيرهم في ذلك فلم يبق إلا أن المراد بذلك تطهيرهم من المعاصي، وتطهير الله سبحانه وتعالى لهم هو العصمة.
وأما قوله: إن ذلك يوجب تكفير الصحابة رضي الله عنهم فهم عندنا أغلى من أن يكفروا ويفسقوا مع تجويزنا عليهم الخطأ فيما اختلفوا، وعندنا أن علياً أولى بالأمر، وأنهم أخطأوا بالتقدم عليه، ولم ندرِ ما مقدار ذلك الخطأ عند الله سبحانه، وقد أخطأ أنبياء الله سبحانه وهم أعلى قدراً من الصحابة وأعرف بجلال الله سبحانه.(1/156)

31 / 170
ع
En
A+
A-