المسألة الثالثة في سماع الأعراض
هل انتقل إلى آذان السامعين بحال غير الأعراض لا يجوز عليها الانتقال ولا التجزي، فكيف تفرق الكلام في أذن السامعين، وإذا تكلم الإنسان في مكان له جو غير متفهق من أين يسمع الكلام ؟
الجواب عن ذلك: أن المسموع من الأعراض إنما هو الصوت على انفراده وقد يكون مرتباً ترتيباً مخصوصاً فيكون كلاماً ويكون على غير ذلك فتختلف أسماؤه، ونحن نجري على المسامحة ونقول:
أما قوله: هل انتقل؟ فالانتقال على الأعراض محال فعندنا أن التنقل محله ومحله الهواء والانتقال عليه غير محال، وكذلك المتجزئ إلى أذان السامعين محله، فلهذا يكون بعد المحل على حسب قوة الاعتماد الذي يعظم معه الصوت إذا كانت الآلة مستقيمة.
وقوله: إذا تكلم الإنسان في مكان له جو غير متفهق من أن تسمع كلامه، قلنا: فلا بتاتاً ألحقوه للإنسان بمجرى العادة مع عدم الجو ولكن قد يكون واسعا ويكون ضيقاً، فإن كان واسعاً امتد الصوت بامتداد محله وبعد مداه، وإن كان ضيقاً وعرضت حواجز قصرت مداه.
ولهذا فإن المتكلم في الجرة إذا لقمها فمه عند الدعاء لا يسمع صوته إلى البعد، وإذا ردته الحواجز رجع الصوت برجوع محله الذي هو الهواء إلى خلف، ولهذا فإن الإنسان إذا أراد الدعاء إلى جهة استقبلها بوجهه، ولهذا أمر المؤذن بتحويل وجهه يمنة ويسرة لإسماع أهل الجهات وإشعارهم الصلاة.(1/11)
المسألة الرابعة في رجع الصدى
أنه لو كان فعل المتكلم لكان يلزمه حكمه، فإذا قال قائل قرب جبل لا إله الله وقال عزير بن الله حكمه يكون كافراً مسلماً في فينة واحدة، دليل آخر قال: والإنسان لا يقدر على إخراج حرف من غير موضعه فكيف يستطيع أن يتكلم في الهواء بغير آلة؟
الجواب عن ذلك: إن المدقق عرف في الكفر في هذه المسألة ولم يغني عنه تدقيق إلا أني أظن أنه يدقق الدقيق، ولا يعرف التحقيق؛ لأنه قال لو كان رجع الصدى فعل المتكلم للزمه حكمه، ولا بد بالاضطرار عند العقلاء له من فاعل، فإن نفاه عن العبد ألحقه بالله سبحانه، لأنه لا فاعل هاهنا إلا العبد أو الله سبحانه، ولا بد أن يلزمه حكمه وحكم فعله في الكلام الصدق إذ الكذب لا يجوز عليه تعالى عند الجميع، فإذا كان رجع الصدى لعزير بن الله وهو قول الله وقوله صدق كفر المحقق في هذه المسألة لأن الله تعالى عن الولد.(1/12)
فأما قوله: يكون مسلماً كافراً في فينة واحدة فجهل ظاهر لأنه ليس بمجرد اعتقاد الوحدانية يخلص المكلف من الكفر، ألا ترى أن اليهود توحد ولا قائل منهم اليوم عزير بن الله فيما نعلمه وهم كفار بإجماع المسلمين، ولا بمجرد الاعتراف أيضاً بالإسلام يخرجون من الكفر؛ لأن في الحديث أن رجلين من اليهود قال أحدهما للآخر: اذهب بنا إلى هذا الذي يزعم أنه نبي نسأله فوصلا فسألاه، فأجابهما عن كل شيء، فلما تم سؤالهما وثبا فقبلا يده وقالا : نشهد أنك نبي، قال: فما منعكما؟ قالا: نخاف اليهود. وقد دعا داود عليه السلام أن يخرج من ذريته ملك فنخاف إن يقتلنا فلم يعصمهما الاعتراف باللسان من الكفر، وإنما الحديث إذا قال عزير ابن الله عقيب الشهادة لزمه الكفر لأن الحكم لآخر العملين، ولو رجع الصدى شهادة أن لا إله إلا الله بعد قوله عزير ابن الله فقد رجعت وفي قلبه اعتقاد البنوة فلا حكم للفظ مع بطلان المعنى لو بدر بسهو على لسانه أو تاب بعد إخراجه.
وأما دليله الآخر بأن الإنسان لا يخرج حرفاً من غير موضعه فكيف يستطيع الكلام في الهواء بغير آلة، وهذا جهل منه لأن الآله والكلام هي الهواء كما قدمنا لأنه من أعظم آلات المتكلم، فكيف قوله يتكلم في الهواء والكلام لا يصح وجوده إلا فيه لأن أرق الأجسام قبل الهواء هو الماء، فالكلام لا يصح فيه فلا آلة للكلام بعد إخراجه إلا الهواء.
وهذا جهل من المدقق قوله بغير آلة ولكن مدقق المطرفية مثل محلل الجهمية، إلا أن يتمكنوا من العربدة ورفع الأصوات فلهم فيها سوق فالحمد لله الذي أخفت أصواتهم وحصد نباتهم.(1/13)
المسألة الخامسة [في أفعال العبيد]
في أفعال العبيد أنها لا تعدوهم ولا توجد في غيرهم، لأن فعله لو وجد في غيره أو حل في سواه لكان الشرك يحل في رأس أمير المؤمنين.
دليل آخر إذا اجتمع جماعة فرموا بالمنجنيق فوقع في رأس إنسان شجه والفاعلون عالم كثير فكيف يكون فعل واحد بين فاعلين؟
الجواب إن هذه المقالة هي مقالة الثنوية الكفار، والمجبرة الأشرار، ولا أعلمها قولاً لأحد من آبائنا عليهم السلام ولا لأحد من العدلية في مصر من الأمصار فانظروا إلى تدقيق هذا المدقق أين أوصله .
والدليل على بطلان قوله إن هذا الفعل يحمد عليه العبد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويتعلق به الأمر والنهي، وهذه حقيقة إضافة الفعل إلى الفاعل، وقد ذكر ذلك جدنا القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كتاب (رده على المجبرة) في قوله عليه السلام: ولو لم تكن الشجة في رأس المشجوج من فعل الضارب الشاج لما أمر الله الحكام أن يدعو في رأس الضارب الشاج شجة مثلها.
وأما قوله: إن فعل العبد لو حل غيره لكان الشرك حالاً في رأس أمير المؤمنين، وهذا جهل من هذا المدقق بلغة العرب ومعاني العدل، لأن الظالم اسم لمن فعل الظلم لا لمن حله، واسم صاحب المحل مظلوم متصرف بين فعيل ومفعول تقول: ضريب ومضروب وقتيل ومقتول ، واسم الفاعل ظالم والمفعول فيه مظلوم، وقد قال علي عليه السلام : وأي عار على المؤمن أن يكون مظلوماً في كتاب له إلى معاوية فيه بعض الطول، وميلنا إلى الاختصار.(1/14)
وأما دليله الآخر فلقد نوع الأدلة شغله الله تنويع أهل المعرفة وهو لا يعرف حقائقها، ولا لوازمها، ولا شروطها، ولكن خلا له الجو فجال في الميدان، وهو ما ذكر من جماعة حذفوا المنجنيق فمه يا مدقق قل: فشجوا رجلاً شجة فقد ألححت في إضافة الفعل إليهم، وشج الله رجلاً فلم نذمهم نحن ولم نعذبهم على فعله ولم نعظم الشجة بعظم الجذب وتصغر بصغره، وإنما وجد هذه الشبهة لمن يجوز حصول مقدور بين قادرين فظنها أنها في نفي المتولدات عن الفاعلين وليس كذلك، ودليل مقدور بين قادرين موضعه غير هذا، غير أنا نقول على وجه الإجمال إن الفعل الحادث من حجر المنجنيق هو أكثر من مقدور واحد، والفعل الحادث في المشجوج أكثر من مقدور واحد بل هو مقدورات بعدد قدر القادرين، لا يعلمها مفصلة إلا الله سبحانه إلا أن الحكم يلزمهم على السواء كما تقول في المقتول لو ضربه أحد القاتلين ضربة والآخر أكثر أن الكل مستوٍ في حكم القتل.
فأما فيما يتعلق بالعوض فإنما يؤخذ كل واحد منهم بما يعلمه الله سبحانه أنه يخصه من ذلك الفعل.(1/15)