وقضى بمعنى الأمر والإلزام يحكيه قوله تعالى : ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ?[الإسراء:23] وقضى بمعنى: الخلق والتمام يحكيه قوله تعالى: ?فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ?[فصلت:12] معناه: خلقهن وأتم خلقهن.
وأما قوله: إن الأمة أجمعت على أن المعاصي بقضائه تعالى فمنهم من قال بمعنى العلم، ومنهم من قال بمعنى الفعل وصححه، فذلك صحيح في الأول غير مسلم في الثاني.
وقوله: إن لفظة القضاء يسبق إلى فهم السامع منها الفعل، هو موضع النزاع، فمن أين ادعى تسليمه؟ وهل هذا إلا على تحكم بمجرد الدعوى؟ لأنا نعلم أن لفظة القضا مشتركة فإذا أضيفت اختصت كغيرها من ألفاظ الاشتراك، فإن قيل: إن المعاصي بقضاء من الله سبحانه على معنى أنه علمها وأعلم بها فذلك صحيح، ولكن لا بد من التقييد حتى لا يلتبس الأمر بغيره ويتوهم فيه تعالى سامع القول أنه فعل المعاصي فهو يتعالى عن ذلك ويتقدس.
وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من لم يرضَ بقضائي..)) إلى آخر الخبر فهو صحيح وهو حجتنا على من زعم أن المعاصي قضاء الله سبحانه على الإطلاق؛ لأنا نقول له: أطبقت الأمة على أن الرضى بقضاء الله عز وجل واجب ، وأطبقت على أن الرضا بالمعاصي لا يجوز، فلو كانت بقضاء الله عز وجل لو جب الرضا بها ، فلما لم يجز ذلك علمنا أنها ليست بقضائه على معنى أنها فعله تعالى عن ذلك.
وأما قوله: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس فذلك صحيح؛ فإذا رجع بالعجز إلى الضعف وبالكيس إلى القوة فذلك ثابت وهو يكون قدراً بمعنى الفعل.(1/142)


وأما قوله : ((إن الله خلق الخير والشر يا أبا بكر)) فذلك قولنا، وإنما خلق الشر الذي هو من قبله كالجدب، والمرض، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات.
وأما قوله: إن المعاصي من الشر فلا شك في ذلك، ولكنها فعل العباد دونه، ولا يحسن إضافتها إليه لأنه يتعالى عنها ويذم على فعلها فكيف يذم على فعل نفسه وقد صحت حكمته.
وأما قوله : ?مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا?[الحديد:22] بمعنى: يخلقها فذلك مستقيم وهي المصائب النازلة من قبله تعالى في الأرض وفي الثمار والأشجار والأمتعة الأرضية، ولا في أنفسكم النساء والأولاد والأحباب والأوداد، والمصائب فيهم بالموت والمرض والصعق والبرق إلى غير ذلك من الأمور التي لا يقدر عليها سواه تعالى. فتفهم ذلك موفقا.(1/143)


مسألة
قال أرشده الله :قالت الزيدية إن الله تعالى لا يرى بالأبصار ولا يراه يوم القيامة عباده الأبرار. قال: وذلك باطل بدلالة قوله تعالى: ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ?[القيامة:22،23]، وقوله: ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ?[يونس:26] قال: والزيادة نظر الرب تعالى بالعيون الباقية على ما جاء ذلك عن الصحابة، حتى لو ادعينا إجماعهم على ذلك لساغ لنا. قال: لأن الصحابة اختلفوا في رؤية الباري تعالى في الدنيا، ولم يختلفوا في الآخرة فإن المروي عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: ?وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى?[النجم:13] أنه رآه بعيني رأسه، وروي بعيني قلبه. قال: وإنما تعلقت الزيدية برواية شاذة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت وقد سئلت عن ذلك: (قف شعري مما قلتم من زعم أن محمداً رأى ربه فهذا أعظم الفرية على الله) وهذا إن صح متأول وإجماع الأمة منعقد على أن الأنبياء عليهم السلام أعرف بتوحيد الله تعالى وعدله، وسائر صفاته، وما يجب عليه ويستحيل، وأنهم لا يسألون الله تعالى ما لا يعلمون، وقد قال موسى عليه السلام: (رب أرني انظر إليك). قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)) وروي بلفظ غير هذا والمعنى واحد. قال: وقد كفى الله بخذلهم، وبين لهم أمرهم بقوله: ?بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ?[السجدة:10]، وقال تعالى في اللقاء: ?تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ?[الأحزاب:44] يعني(1/144)


بذلك المؤمنين.
الجواب عن ذلك وبالله التوفيق: أن مذهب آل محمد سلام الله عليه وعليهم وكافة أهل العدل والتوحيد من أتباعهم رضي الله عنهم متقرر على نفي الرؤية عن الله سبحانه في الدنيا والآخرة لكون ذلك مستحيلاً في حقه جل وعلا من أن تدركه الأبصار، وتحيط به الأقطار، وتدركه الحواس، أو يقاس بالناس، وكيف تدرك الجوارح باريها، وتشاهد الأدوات خالقها، فلو شاركها في أن يكون مدركا لكان محتاجاً إلى الصانع مثلها.
وعندنا أنه تعالى لا يرى بالأبصار وهذا مذهب العدل، والدليل على ذلك أنه لو جاز أن يرى في حال من الأحوال لرأيناه الآن؛ ومعلوم أنا لا نراه الآن فثبت أنه لا يجوز رؤيته في حال من الأحوال، أما أنه لو جاز أن يرى في حال من الأحوال لرأيناه الآن، فلأنا على الحال التي يصح نرى جميع ما يصح رؤيته لكوننا أحياء سليمي الحواس وهو تعالى موجود، والموانع بيننا وبينه مرتفعة، وكل رائي ومرئي يكونان بهذه الصفة لا بد أن يرى الرائي المرئي.
وأما أنا لا نراه الآن فذلك معلوم لنا ضرورة، وليس فيه خلاف يظهر فثبت أنه لا يجوز رؤيته في حال من الأحوال.(1/145)


وأما ما ذكره من الإحتجاج بقوله تعالى : ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ?[القيامة:22،23] فإن معنى ذلك عند آل محمد صلوات الله عليه وعليهم أن إلى واحد آلاء يقول آلاء وإلى كما يقول أمعاء ومعي، فمعنى إلى ربها ناظرة نعمة ربها ناظرة، فهي تنظر إلى نعم ربها عز وجل تلذذاً وتفكهاً مع ما يصلها من النعيم المقيم، والخير الجسيم، وقد قيل: إن ذلك من المجاز، وأن قوله ?إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? يريد إلى ثواب ربها، فحذف الثواب كما قال تعالى: ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا?[يوسف:82] يريد أهل القرية وأهل العير، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وذلك جائز في اللسان العربي فلا وجه لإنكاره لأن الوجوه لو نظرت الباري تعالى لكان في جهة أو حالاً فيما هو في جهة، ولو كان كذلك لكان جسماً أو لوناً، والأجسام والألوان محدثة وهو تعالى قديم، فلا يجوز ذلك عليه تعالى في دنيا ولا آخرة وقد قال تعالى: ?لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الأنعام:103] فتمدح بنفي إدراك الأبصار وهو رؤيتها تمدحاً راجعاً إلى ذاته، فلا يجوز إثبات ما تمدح الله تعالى بنفيه عن نفسه.
أما أنه تعالى تمدح بذلك فهو ظاهر، وأما أن التمدح راجع إلى ذاته فكذلك، وأما أنه لا يجوز إثبات ما تمدح بنفيه عن نفسه فلأن ذلك يكون نقصاً في حقه وإلحاق النقص به لا يجوز.(1/146)

29 / 170
ع
En
A+
A-