أما قوله تعالى: ?يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[النحل:93] فالمراد بذلك يثيب من يشاء وهو لا يشاء إثابة غير المطيع، ويعذب من يشاء وهو لا يعذب إلا العاصي، وعلى ذلك يحمل قوله: ?يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا?[البقرة:26] معناه يعذب به كثيراً، ويثيب به كثيراً، وكذلك يكون الحال في الآخرة وإنما يعذبهم بذنوبهم، كما قال تعالى: ?فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ?[العنكبوت:40] ويثيبهم على أفعالهم، كما قال تعالى: ?هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ?[الرحمن:60]، وقوله تعالى: ?مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا?[الكهف:17] معناه: من أراد توفيقه وتسديده لقبوله الهداية الأولى فهو المهتدي حقاً، ومن أضله عن طريق الجنة عقوبة له على عصيانه في الدنيا فلن تجد له ولياً مرشداً يدله إلى الجنة ويدخله إياها.
وقوله: ?إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[القصص:56] إنك لا تثيب من أحببت ولكن الله يثيب من يشاء، وهو لا يشاء إثابة غير المطيع لأنه لو أثاب العاصي لكان ذلك إغراءً بالمعاصي، والإغراء بالمعاصي قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح.(1/132)
وقوله: ?إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ?[الأعراف:155] معنى فتنتك: محنتك تضل بها المستحق لها معناه يعذبه، ويهدي بها التائب المتذكر معناه يثيبه، كما قال تعالى: ?أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ?[التوبة:126] معناه: يمتحنون.
وقوله: ?إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ?[النحل:37] معناه: إن تحرص على ثوابهم قال الله سبحانه لا يثاب من يعذب لأنه لا يعذب إلا من يستحق العقاب تأديباً لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، والمراد منه كما قال تعالى: ?يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ?[الأحزاب:1]، وقوله: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[إبراهيم:4] هذا إبلاغ منه سبحانه بالحجة على عباده أن يأمر إليهم رسولاً على لسانهم لئلا تكون لهم حجة بقولهم: إنا لا نفهم قولك؛ فجعله بلسانهم مع أن ذلك لم ينجع في أهل الضلالة منهم، بل حكى عنهم أنهم قالوا: (ما نفقه كثيراً مما تقول)، ولو كان يريد ما توهمه السائل ما كان لإرساله إليهم بلسانهم معنى.
فأما قوله : ?فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[إبراهيم:24] فالمراد بذلك أنه لما جاء رسول الله بلسانهم وردوا عليه أمره شاء تعذيب المكذبين منهم وإثابة المصدقين وذلك مستقيم.(1/133)
وقوله: ?فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ?[الأنعام:125] معنى يهديه هاهنا: يوفقه ويسدده بعد قبوله الهداية الأولى، فيكون زيادة التوفيق والتسديد ثواباً، وشرح الصدر توسيعه، ومن يرد أن يضله يسلبه التوفيق والتسديد عقوبة له على فعله، يجعل صدره ضيقاً حرجاً تأكيداً للضيق وإلا فالضيق والحرج معناهما واحد، والعقوبة يجوز إنزالها بالمستحقين، ويجوز تقديم شيء منها في الدنيا كما فعل في المستقيمين، وكذلك الجواب في قوله تعالى: ?مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ?[الأنعام:39] معنى يضلله: يعذبه، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وهي طريق الجنة للمؤمنين مستقيمة لا عوج فيها ولا تعب.
وأما قوله: ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ?[المائدة:41] فالمراد بذلك تنزيهها من حزن العذاب وغم الآلام لمجاهرتهم له بالمعاصي وذلك جائز واللائمة عليهم دونه تعالى.
وأما قوله تعالى: ?وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ?[هود:34] فمعناه: أن نصحي لكم لا يدفع عنكم عذاب ربي المستحق بعصيانكم لأنه تعالى لا يريد أن يعذب إلا المستحق، وإن كان عذبكم بإغوائكم عن طريق الجنة في دار الآخرة فإن ذلك أكثر نقمة، فأما مع بقاء التكليف فلو أراد غواهم عن الدين لكانت بعثة الرسل عبثاً لأنه لا عوض في مقابلتها وذلك لا يجوز على الله سبحانه، فتأمل ذلك موفقاً.(1/134)
مسألة
قال أرشده الله: قالت الزيدية: إن الله تعالى لا يريد المعاصي ولا يشأها ولا يرضاها، بل يكون في ملكه ما لا يشاء. قال: فيكون عز وجل بمقتضى قولهم عاجزاً، وقد نطق القرآن بخلاف ما ذكروه. قال: بقوله: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ?[يونس:99] ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ?[الأنعام:137] ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا?[الأنعام:107] ?وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا?[الأعراف:89] وكذلك يبطل قولهم ما ورد عن زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام قال: إنه لقي قدرياً. فقال له: إنكم تنسبون إلى الله ما لا يرضى من القبيح يا قوم جل ربنا من الفحشاء. فقال له علي بن الحسين: وتعالى أن يكون في ملكه ما لا يشاء. فقال القدري: أفيحب ربنا أن يعصى؟ قال: فقال له علي بن الحسين: أفيعصى ربنا قهراً؟ قال: فقال له القدري: أفرأيت إن قضى علي بالردى، ومنعني الهدى، أحسن إليّ أم أساء؟ فقال له علي بن الحسين: إن منعك شيئاً هو لك، فقد أساء وظلمك، وإن منعك شيئاً هو له، فالفضل له يختص برحمته من يشاء. قال: فاسترجع القدري وقال: أشهد أنكم أهل البيت أهل الحكمة وفصل الخطاب.(1/135)
الجواب عن ذلك: أن الزيدية بل العدلية جميعاً تنفي عن الله عز وجل ما لا يليق بحكمته وعدله من إرادة القبيح وكراهة الحسن وأنه لا يريد الظلم، كما قال: ?وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ?[غافر:31] ?وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ?[الزمر:7] كما قال: وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ?[الزمر:7]، ولا يحب الفساد كما قال تعالى: ?وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ?[المائدة:64] وهذا مذهبهم، والدليل على صحته أن الرضى والمحبة راجعان إلى الإرادة، وإرادة القبيح قبيحه، والله تعالى لا يفعل القبيح، أما أن الرضا والمحبة راجعان إلى الإرادة فلأنه، لا يجوز أن تقول: أرضى هذا ولا أحبه، ولا أرضاه وأريده، ولا أريده وأرضاه، فدل على أن معنى هذه الألفاظ واحد لأن هذا أمارة الإتفاق، كما تقول في الجلوس والقعود لما كان معناهما واحداً لم يجز أن تقول: جلس وما قعد، ولا تقول قعد: وما جلس، بل يعد من قال ذلك مناقضاً جارياً مجرى قوله: قعد وما قعد.
وأما أن إرادة القبيح قبيحة فلأنه قد ثبت أن الإنسان منا إذا قال: إني أريد جميع ما يحدث في البلد من فساد وظلم وسكر فإنه مستحق الذم من العقلاء، وهم لا يذمون إلا على أمر قد تقرر في العقول قبحه، فإن كان مالك الأمر ولم ينكر ولم يكره كان ذلك أقبح، فإذا كان هذا في الواحد منا فكيف يضاف ذلك إلى الملك الكبير، العدل، العزيز الحكيم.
فأما قوله: كيف يكون في ملكه ما لا يشاء، وأن ذلك يدل على كونه عاجزاً ؟(1/136)