وأما قوله: إن العبد يسير بنفسه ويجيء ويذهب؛ فذلك مذهب الزيدية والعدلية بالدليل الصحيح، وقد قال تعالى: ?انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً?[التوبة:41]، وقال: ?فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ?[التوبة:122] فلولا كان ذلك فعله لما أمرهم به كما قدمنا في المسألة الأولى ، ولولا ذلك لما كان بعض المجيء والذهاب طاعة وبعضه معصية ، وبعضه حسناً، وبعضه قبيحاً، إذ فعل الباري تعالى مستوفي باب الحسن كما قال تعالى: ?مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ?[الملك:3] يريد في باب الحكمة والمصلحة، ولو كان فعل العباد فعل الله ومراده لم يكن كما قدمنا، ولو أراد فعلهم ولو لم يخلقه لكانوا مطيعين في المعاصي؛ لأن الطاعة فعل ما أراد المطاع، وذلك لم يقل به أحد من المسلمين أن العاصي مطيع لله في عصيانه.(1/127)


فأما قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: ?أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ?[يوسف:100] فإنما أضاف ذلك إلى الله سبحانه لكونه بألطافه وتوفيقه وعونه وتأييده كانوا عالةً فأغناهم، ومستضعفين فملكهم، وعلى مثل ذلك يحمل قوله تعالى: ?هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ?[يونس:22] معناه أعطاكم آلة السير وقدرته في البر الظهر والقدرة، وفي البحر الرياح والألواح، ثم إن قصدتم في فعلكم رضا الله تعالى كنتم قد أطعتموه، وإن قصدتم هوى نفوسكم كنتم قد عصيتموه، وعلى مثل هذه المعاني يحمل ما شاكل هذه الآيات بأنه تعالى نهانا عن المسير في معصيته، وأمرنا بالنفير إلى طاعته، فلولا أنها أفعالنا لم يصح ذلك فيها، كما لم يصح في صورنا وألواننا ، فتفهم ذلك.(1/128)


مسألة
قال أرشده الله : قالت الزيدية: إن الله تعالى لا يضل ولا يغوي أحداً من العباد، ولا يصدهم عن الرشاد؛ وهذا باطل لقوله تعالى: ?يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[النحل:93]، وقوله: ?يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا?[البقرة:26]، وقوله: ?وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ?[الرعد:33، الزمر:23]، وقوله: ?مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا?[الكهف:17]، وقوله: ?إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[القصص:56]، وقوله: ?إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ?[الأعراف:155]، وقوله: ?إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ?[النحل:37] وقوله: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[إبراهيم:4]، وقوله: ?فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا?[الأنعام:125]، وقوله: ?مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ?[الأنعام:39]، وقوله: ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ?[المائدة:41]، وقوله: ?وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ(1/129)


أَنْ يُغْوِيَكُمْ?[هود:34].
الجواب عن ذلك: أنه لا بد لنا من مقدمة نبين فيها معنى الضلال والهدى والإغواء فنضيف إلى الباري تعالى من ذلك ما يليق به جل وعلا.
أما الضلال فله معان منها: الذهاب ، والتقطع؛ كما قال تعالى حاكيا عن المشركين: ?أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ?[السجدة:1] أرادوا إذا ذهبنا وتقطعنا.
ومنها: العذاب كما قال تعالى: ?إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ?[القمر:47] يريد عذاباً وناراً، لأنه لا تكليف هنالك فيقع فيه ضلال المعصية والصدود عن الدين.
ومنها: الإغواء عن الدين والصدود عن الرشد، كما قال تعالى: ?وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى?[طه:79]، وقال: ?وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ?[طه:85] إلى غير ذلك.
وأما الهدى: فعلى وجوه أيضاً منها: بمعنى الثواب، كما قال تعالى: ?وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ?[محمد:4،5] ولا تكليف بعد القتل فتكون الهداية إلى الدين، وإنما هداه لهم ثوابهم، وبمعنى: نصب الدلالة وإيضاح العلم، كما قال تعالى: ?وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى?[فصلت:17].
ومنها: زيادة التوفيق والتسديد كما قال تعالى: ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى?[محمد:17] والغوى بمعنى الهلاك، ومنه قولهم: غوى الفصيل إذا كثر عليه اللبن فهلك من ذلك، وغوى: بمعنى مفارقة سبيل الحق وخطأ طريق الرشد.(1/130)


وأما الفتنة: فقد تكون بمعنى العذاب كما قال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ?[البروج:10] وتكون بمعنى الامتحان كما قال تعالى: ?أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ?[التوبة:126]، ويكون بمعنى الصدود عن الدين والدعاء إلى الكفر، كما قال تعالى: ?يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ...?الآية[الأعراف:27] فإذا قد تقررت هذه الجملة بما لا سبيل إلى دفعه فلنذكر معنى كل آية مما ذكره على وجه الاختصار.(1/131)

26 / 170
ع
En
A+
A-