فأما قوله تعالى: ?وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا?[الفرقان:2] فهذه خاصة في أفعاله تعالى من الأجسام والأعراض الضرورية التي لا يقدر عليها سواه كالروائح، والطعوم، والألوان، والحرارة، والبرودة، وما شاكل ذلك، وكالحيوانات، والجمادات وما فيها من الآثار العجيبة والتقدير البديع؛ فأما الفواحش، والمخازي، والزور، والعدوان، والظلم، والكذب فأي تقدير فيه، وأي حكمة في فعله وفاعله مذموم، ولو قيل لمضيف هذه الأفعال إلى الله سبحانه: يا كاذب، يا سارق، إلى غير ذلك لأنف على نفسه، فكيف يرضى بإضافة ذلك إلى ربه ويحسنه له عقله ولبه!! هل هذا إلا الزيغ العظيم والضلال البعيد!!.
وقوله تعالى: ?وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا?[الفرقان:2] يريد من فعله لأنه تعالى لا يفعل إلا الحكمة، وسواء كانت مشتهاة أو منفوراً عنها.(1/122)


فأما قوله تعالى : ?فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى?[الأنفال:17] فذلك في قصة أهل بدر، ولما كان الغالب على أمر قريش القوة والاستظهار، وكان أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم في نهاية من الضعف، كما قال تعالى: ?وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ?[آل عمران:123] أضاف القتل إليه لتأييده تعالى لهم بالملائكة عليهم السلام، والفعل مضاف إليه تفخيماً للحال، وتعظيماً للأمر، كما يقال: السلطان قتل بني فلان وإن كان جنده قاتليهم؛ فلما وقع قتل المشركين بتأييد الملائكة وقذف الرعب في قلوبهم أضاف الأمر إلى الله تعالى، وكذلك في قوله : ?وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى?[الأنفال:17] فلأن الرمي وقع على وجه لا يدخل تحت مقدور العباد، لأنه رمى بكف من حصى وتراب فما بقي رجل إلا دخل من ذلك في عينه شيء فكان المتولي لذلك.
وأما حركة كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد كانت منه، ولهذا قال تعالى: ?وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ?[الأنفال:17] فأضاف الرمي إليه الذي دخل تحت مقدوره ونفى عنه ما عدا ذلك، فتأمل ذلك تفهم معناه، موفقاً إن شاء الله تعالى.
قال: وأما ما يذكرون من نسبتها إليهم بآيات من القرآن الكريم قال: فذلك على سبيل المجاز.
اعلم أن الجواب عن هذا أن الحاجة ماسة للسائل على معرفة الحقيقة والمجاز حتى لا يتعدى في المجاز فيجعله حقيقة ولا يطغى في الحقيقة فيجعلها مجازاً، فالجهل بذلك سبب لضلالة كثير من الناس(1/123)


الحقيقة: كل لفظ إذا أطلق سبق إلى فهم السامع معنى أو معنيان أو أكثر على وجه المساواة.
وقولنا: أطلق احتراز من اللفظ المقيد بالقرائن ، والحقائق على قسمين: مفردة ومشتركة، وهي ثلاثة أنواع: لغوية، وعرفية، وشرعية.
والمجاز: كل لفظ إذا أطلق لم يفهم معناه إلا بقرينة، والقرائن ثلاث.
والمجاز على نوعين: مجاز أقرب، ومجاز أبعد، وليس هذا موضع ذلك لأن موضعه أصول الفقه، وقد وسع فيه العلماء رحمهم الله سبحانه، فأودعنا كتابنا الموسوم، بصفوة الاختيار، ما فيه غنى، فإذا كانت الحال كما ذكرنا فأي نوعي المجاز عند السائل إضافة أفعال العباد إليهم، فأي حقيقة توجد في إضافة ذلك إلى غيرهم ما سبق إلى فهم السامع عند قوله تعالى: ?فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ?[التوبة:2] وقوله: ?تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ?[هود:65]، وقوله تعالى: ?سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ?[الأحزاب:19]، وقوله تعالى: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ?[المنافقون:1] إلى غير ذلك، السابق إلى فهم السامع أو هل هو يبقى متردد الفهم، هل فعلوا ذلك أم فعله فيهم غيرهم؟(1/124)


وأما قوله: إن الله نسب إلى الجمادات والأعراض أفعالاً على سبيل المجاز، فمسلم ذلك لأن وجود الأفعال من قبلها مستحيل لأنها ليست بحية ولا قادرة، والفعل لا يصح إلا من حي قادر، وإذا أضيف الفعل إليها سبق إلى أفهامنا أنها لا تفعل ولا يصح منها الفعل ، فاعلم الفرق بين الأمرين موفقاً.(1/125)


مسألة
قال أرشده الله : قالت الزيدية العبد يسير ويجيء ويذهب بقدرته وإرادته دون قدرة الله تعالى وإرادته قال: وذلك باطل لقوله تعالى في قصة يوسف: ?وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ?[يوسف:100] فأضاف المجيء والخروج إلى الله سبحانه، وقوله: ?هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ?[يونس:22] فأضاف المسير إليه إلى ما يشاكل ذلك من آيات القرآن الكريم.
اعلم أن الجواب عن هذه المسألة قد تقدم في المسألة الأولى، ولا معنى لترداده، وإنما نذكر ما تعلق به من الآيات الشريفة كشفاً واضحاً.(1/126)

25 / 170
ع
En
A+
A-