وأما قوله: استأثر الله بعلمها، فلو كان كذلك لما خاطبنا بها، وإنما استأثر تقدّس وعلا بعلم الغيب ولأن السامع لآية الجنب واليد والوجه لا يخلو إما أن يكون معتقداً لظاهر ها في الله سبحانه وهذا لا يجوز كما قدمنا، وإما أن يكون نافياً لذلك عن الله سبحانه منزهاً له عن شبه الخليقة، فهذا الذي نقوله، ولا بد أن يتأول القرآن على ما قلنا لئلا يبطل معنى الآية، وإما أن يكون شاكاً فيه تعالى وهو على صفة الآلات والجوراح تعالى فهو متعال عن ذلك ، فالشك في الله تعالى لا يجوز ، فتأمل ما ذكرت، موفقاً إن شاء الله تعالى.(1/112)


مسألة
قال أرشده الله: قالت الزيدية: إن الله تعالى واحد في ذاته وصفاته وملكه، ثم نقضوا ذلك وأشركوا معه في ملكه غيره ، قال: بقولهم إن الله تعالى قادر والعبد قادر، وعالم والعبد عالم، وخالق والعبد خالق. قال: وهل هذا إلا الشرك والتشبيه؟ قال: وهل يسوَّغ لهم ذلك مع قوله عز وجل في قدرة الرحمن وضعف الإنسان: ?أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا?[البقرة:165]، وقوله تعالى: ?وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا?[النساء:28]، وقوله في علم الرب وجهل العبد: ?وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?[النور:19] وقوله في الخلق: ?هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ?[فاطر:3]، وقوله: ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ?[الزمر:62].
الجواب عن ذلك وبالله التوفيق: إن مذهب الزيدية مستمر مستقيم على إثبات وحدانية الله تعالى في ذاته وصفاته، لا شريك له في ملكه، ولا نظير في سلطانه وذلك عندهم بأدلة صحيحة.
وأما قوله : إنهم نقضوا ذلك بقولهم: إن العبد قادر والباري تعالى قادر، وعالم والعبد عالم، وخالق والعبد خالق. قال: وهل هذا إلا الشرك والتشبيه؟ فقوله جهل بكيفية النقض؛ لأن النقض أن يثبت أمراً على وجه ثم ينفيه على ذلك الوجه فيجعل علة النفي علة الإثبات ، هذا معنى النقض.(1/113)


فأما إذا ثبت أمر على وجه ونفيه على وجه آخر فلا مناقضة في ذلك، ألا ترى أناّ نقول في الواحد منّا: إنه واحد، وكذلك نقول في الباري: إنه واحد، ولكن لا وجه للمساواة من هذا الوجه لأن الباري تعالى واحد من كل وجه، ووحدانية أحدنا جملية بمعنى أنه جملة واحدة ذات أبعاض وجوارح والباري يتعالى عن ذلك، وكذلك نقول فيما ذكر: إن العبد قادر بقدرة مُحْدَثَة، والباري تعالى قادر بذاته، وكذلك في أمر العالم الواحد منّا علم بعلم، والباري تعالى عالم لذاته، وكذلك الكلام في خالق أن الواحد منّا لا يفعل إلا أجناساً من الأعراض مخصوصة والحركة والسكون وما شاكلها من أفعال الجوارح وأفعال القلوب، والباري تعالى خلق الأجسام والأعراض الضرورية.
فأي مشابه بين الخلق والمخلوق بهذا القدر، وكذلك فإناّ قد أثبتنا الواحد مناّ حياً، والباري سبحانه الحي القيوم، فلم يقع تشبيه لما كان الباري تعالى حياً لذاته، والواحد منّا حياً بحياة مُحْدَثَة وليس الضد يصير مشركاً بقول ضده: إنك مشرك، ولا مشبهاً بقول خصمه: أنت مشبه، وإنما يكون ذلك إذا قامت دلالة صحيحة، لأن الخوارج قد قالت لعلي بن أبي طالب عليه السلام: أنت كافر وكانت أولى بالكفر منه ، وقال تعالى : ?لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا?[الأحزاب:69].(1/114)


وأما قوله تعالى: ?أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا?[البقرة:165] فذلك حق لأن القوة في الأصل على وجهين: أحدهما القدرة. والثاني: الآلة. قال تعالى: ?وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ?[الأنفال:60] (………………..) والسلاح، ويقول قائلهم: ما لي قوة على هذا أي: قدرة ، فإذا عرفت ذلك علمت أن القوة لله جميعاً، لأنه خالق الآلة والقدرة، لا يقدر على ذلك غيره سبحانه، فالقوة لله جميعاً، وقوله تعالى: ?إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ?[القصص:26] المراد بالقوي: القادر ومعنى الأمين ظاهر.
وأما قوله تعالى: ?وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا?[النساء:28] وصدق الله العظيم وأي ضعف أعظم من حاله عند خلقه لا يجلب إلى نفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، فلما كان كذلك لطف له بالوالدة وعطفها عليه بالرحمة فمهَّد له بعضها، وخلق له الغذاء في بعضها، وألهمه تناوله، وألهمها تربيته، حتى ملك رشده، وبلغ أشده، قال الله تعالى: ?اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ?[الروم:54] على أن تسمية الضعيف لا تطلق إلا على من له قدرة دون قدرة من هو أقدر منه ، وكذلك لا يسمى الجماد والميت ضعيفاً لما كانا غير قادرين، ?ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ?[الروم:54] وهذه الآية لا تعلق للخصم بها.(1/115)


وأما ما ذكره من قوله تعالى: ?وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?[النور:19] فصدق الله العظيم، وبلغ رسوله النبي الكريم إنا لا نعلم الغيب، ولا علم لنا إلا بما علمنا، كما قال تعالى: ?الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ?[العلق:4،5] وكما قال تعالى: ?خَلَقَ الإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ?[الرحمن:2،3] فإن كان السائل يدعي أنا لا نعلم شيئاً على سبيل الجملة فهذا جهل بحال النفس لأنا نعلم منافعنا ومضارنا ومعالم ديننا، فلولا ذلك لما صح التعبد ولزم التكليف، إذ تكليف ما لا يعلم قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح.
وأما قوله تعالى: ?هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ?[فاطر:3] فلا خالق إلا الله يرزقنا من السماء والأرض، ويوجد الأجسام والأعراض الضرورية، فلا يخلق إلا الحكمة والصواب، وأفعاله كلها حسنة في باب الحكمة وإن كان بعضها محبوباً وبعضها منفوراً عنه كالخير والشر، الخير محبوب، والشر منفور عنه والكل فعله تعالى، فأما ما عدا ذلك فخلق العباد وأكثره قبيح، وقد قال تعالى: ?وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا?[العنكبوت:17] وقال تعالى: ?وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ?[الشعراء:149]، وقال تعالى: ?وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ?[الشعراء:130] وقال: ?فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ?[البقرة:91] إلى ما لا يحصى ولا يعد من إضافة الأفعال إلى العباد، وفي قوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام: ?وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ?[المائدة:110].(1/116)

23 / 170
ع
En
A+
A-