فأما قوله أرشده الله: الصحيح أن المتشابه منه عند علماء السنة والجماعة هو ما وصف به نفسه وتفرد بعلمه كاليد والجنب والساق والوجه، وهذا إجماع من الكل أنه متشابه، وقد أضاف سبحانه اليد والجنب والوجه إلى نفسه، وأما الساق فلا إضافة إليه في كتابه تعالى لأن قوله تعالى : ?يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ?[القلم:42] يراد به وقوع الشدة وهو ظاهر في كلامهم.
وقد قدمنا الكلام في اليد على وجه الاختصار فلنتكلم في الجنب والوجه كذلك.
أما الجنب فقد يعبر به عن الذات تقول: هذا ما أصابني في جنب فلان، تريد في ذاته وحقه، وقد قال من يوثق بعربيته:
فكلما لاقيته معتفر في جنب .... من إيثاره سخط النوى
وقد يكون الوجه أول شيء، كما قال تعالى حاكياً عن أهل الكتاب: ?آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ?[آل عمران:72]، وقال الشاعر:
من كان مسروراً بمقتل مالك .... فليأت بيوتنا بوجه نهار
والوجه: العضو المخصوص ، ووجه الشيء هو الشيء نفسه، تقول: هذا وجه الرأي، أي: هذا هو الرأي فإذا ذكر سبحانه الوجه فلا يجوز عليه العضو، ولا أول له فالمراد بالوجه الذات ونفس الشيء.(1/107)
فمعنى قوله تعالى: ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ?[الرحمن:27] ويبقى ربك وهذا التأويل يطلق عليه الكافة من الأمة إذ ليس أحد منهم جوَّز عليه تعالى الفناء إلا وجهه، ودلالة العقل تحكم به وهو أنه لا يجوز عليه العدم لاستحقاقه البقاء لذاته، وقد نطق محكم القرآن بأنه الأول والآخر، الأول قبل كل شيء والباقي بعد كل شيء، والظاهر بالأدلة الدالة عليه لكل مستبصر، والباطن عن إدراك الحواس على مرور الأجراس.
فأما رواية عن عائشة رضي الله عنها وعن الصحابة والتابعين فلم يثبتها، فإن أراد أنهم قالوا: إن من القرآن ما لا يعلم معناه إلا الله سبحانه دون خلقه فلا يصح رواية ذلك عنهم؛ لأن المعلوم من حالهم بيان كل مشكل من كتاب الله سبحانه لكل سائل، ولم يقولوا في شيء منه: لسنا نعلم معناه، فإن روي عنهم ذلك فشاذ لا يعتمد عليه، وإن صح ذلك عنهم أو عن أحدهم فالخطأ جائز على آحاد من أضيفت الرواية إليه ، ولهذا قطعنا على معصية عائشة رضي الله عنها لخروجها على إمام الحق علي عليه السلام وروينا توبتها، فما أنكر السائل إن صح ذلك أن يكون من ذلك، هذا على أن الأخبار شرحها طويل، وتفصيلها بليغ، وهي تنقسم إلى ما يوجب العلم، وما يوجب العمل، وما لا يوجب واحداً منهما، فالذي يوجب العلم ينقسم إلى ما يوجب العلم الضروري وما يوجب العلم الاستدلالي، والذي يوجب العلم الاستدلالي لا بد فيه من شرائط: أحدها: أن يكون سليم الإسناد من المطاعن، سليم المتن من الاحتمالات، متخلصاً من معارضة الكتاب والسنة.(1/108)
وهذه الشرائط معدومة في هذه الرواية التي رواها أيدَّه الله، ورواية أهل البيت أولى، وإجماعهم معلوم لهم ولمن تابعهم ، وقد روينا عن جدنا علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: أيها الناس، اعلموا أن العلم الذي أنزله الله سبحانه على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيكم، فأين يتاه بكم عن أمر تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة؟ هؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السلم، فادخلوا في السلم كافة، وهم باب حطة من دخله غفر له، خذو عني عن خاتم النبيين، حجة من ذي حجة، قالها في حجة الوداع: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)) وكان علي عليه السلام يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله ما تسألوني عن شيء إلا نبأتكم به، [وما به] آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت؟ في سهل أو جبل؟ وفي أي وقت نزلت، في ليل أو نهار؟ وفي من نزلت.(1/109)
والروايات كثيرة، وفي الرواية عن زيد بن علي عليه السلام أنه لما خرج من دار معاوية بن إسحاق رحمه الله قال الراوي في رواية طويلة: رأيته وبين يدي قربوس سرجه مصحف، وهو يقول: أيها الناس، والله ما قمت فيكم حتى عرفت التأويل والتنزيل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ بين الدفتين، وإني لأعلم أهل بيتي ولقد علمت علم أبي علي بن الحسين، وعلم أبي الحسين بن علي، وعلم أبي علي بن أبي طالب، وعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأجيبوني على أنباط أهل الشام، فوالله ما يعينني عليهم أحد إلا أتى يوم القيامة يجوز على الصراط ويدخل الجنة.
والرواية من أهل البيت عليهم السلام في هذا واسعة، وعندنا أنه لا يصح إمامة الإمام من أهل بيت محمد عليهم السلام حتى يعرف علوماً تفصيل شرحها يطول، المقصود منها في هذا الباب أن يكون عارفاً بخطاب الله سبحانه، وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وحقيقة ذلك ومجازه، وما يجوز أن يخاطب به وما لا يجوز، وأنواع الحقائق والمجاز وأحكامها، وعارفاً بالأوامر والنواهي، والخصوص والعموم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وما يتبع ذلك مما يطول شرحه؛ وإنما ذكرنا أنه لا بد من علمه بالمتشابه، ولهذا يفزع إليه، وبينه قوله تعالى: ?أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى?[يونس:35].(1/110)
وأما قوله: إن من واصل القراءة كفر فحكم بغير علم؛ لأن التكفير شرع فلا يصح إلا بدليل شرعي، وهو اسم لأفعال مخصوصة، تتبعها أحكام مخصوصة فالأفعال كتكذيب رسل الله والإلحاد في أسمائه والتشبيه بخلقه، والتجوز في حكمه إلى ما شاكل ذلك.
والأحكام المخصوصة تحريم المناكحة، والموارثة، والقبر في مقابر المسلمين إلى غير ذلك، فمن أي هذه الوجوه وصل القراءة الذي ذكر السائل أرشده الله وأهل البيت عليهم السلام يقرءون موصولاً وهم صفوة الله من خلقه ولو خالفهم غيرهم لما قدح ذلك في قولهم.
وأما قوله: فهذه الآيات لا يجوز تفسيرها ولا تأويلها ولا حملها على ظاهرها؛ مذهب لا برهان عليه إلا أن يكون لدليل عنده.
قوله: لكن متأولها كافر؛ فخصمه يتمكن من عكس دليله عليه، ويقول: إن تارك تأويل هذه الآيات كافر ، فأي الرجلين يكون أولى بالإصابة.
وأما قوله: حاملها على ظاهرها كافر فمسلم، وليس لأنه قال هو كافر، ولكنه إذا جعل له أعضاء كان محدَثاً لأن آثار الصناعة فيه محدَثَة ظاهرة وهو التركيب؛ فلو كان كذلك تعالى عن ذلك كان لا بد من صانع صنعه فيخرج عن كونه إلهاً مستحقاً للعبادة فيكون قد نفى الصانع ونفيه كفر، تعالى عن ذلك.(1/111)