وأما قوله: إنا نعلم أن العبد يولد لا يعلم شيئاً من الضروريات ولا مانع من ذلك، ولكن ما في ذلك من دليل على نفي الضروري أفليس الضروري فعل الله سبحانه يفعله فينا وفعله موقوف على إرادته متى شاء أوجده حال الولادة كما فعل لعيسى عليه السلام وحال الخلق كما فعل لآدم عليه السلام وما جانسه وبعد ذلك كما نعلمه فينا، ويحدث شيئاً بعد شيء على مقدار ما يعلمه تعالى من المصلحة حتى يكمل العقل.
وأما ما حكى من قصة الملائكة عليهم السلام في قولهم: ?لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا?[البقرة:32] فإن المراد بذلك الغيوب وأصول العلم التي لا تصح إلا من جهته سبحانه؛ لأن العلوم كلها لو كانت من قبله تعالى فمنها القبيح الذي لا يجوز أن يفعله الحكيم تعالى كالسحر، والشعبذة، وترتيب أنواع الملاهي، وكيفية إيراد الشبهة لهدم قواعد الإسلام حرسه الله تعالى إلى غير ذلك، والحسن الذي يثاب عليه العبد فلا يجوز إضافة القبيح إلى الله تعالى لتعاليه عنه ، ولا إضافة الحسن منها إليه لإثابته عليه، وهو لا يثيبنا على فعله كما لا يثيبنا على ألواننا وأجسامنا لما كانت فعله، فتفهّم ما ذكرت لك موفقاً إن شاء الله.(1/97)


مسألة
قال تولى الله إرشاده: قالت الزيدية: إن الأشياء تعرف بالحدود ما سوى الباري سبحانه قال: فليت شعري في الحدود ما تقول هي من جملة الأشياء؟ قال: فإن كانت ليست من الأشياء انتقض كلامهم، وإن كانت منها احتاجت إلى ما تعرف به من حدود أخرى، والحد إلى حد آخر يؤدي إلى التسلسل وذلك محال؟
الجواب عن ذلك وبالله التوفيق: اعلم أن السائل أرشده الله تعالى في هذه المسألة وغيرها يفتقر إلى معرفة الشيء، ومعرفة الحد، ومعرفة مذهب الزيدية، ليتمكن من الاعتراض عليها والنسبة إليها، ونحن نقدم له في ذلك مقدمة تكون وسيلة للطالب، ومنبهة للراغب.(1/98)


اعلم أن الشيء عند المحققين من العلماء: ما يصح العلم به والخبر عنه وإن انفرد، والحد: كل أمر يكشف عن معنى أمر آخر على جهة المطابقة وحصر معناه وفائدته حتى لا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج منه ما هو منه، كما تقول ذلك في حد الأسد: أنه السبع الشجاع العريض الأعالي، فإن هذا اللفظ خص هذا الجنس من السباع وميزها عن غيرها، والحد لا يكون إلا لمحدود، بل هو حقيقة لا فرق عند أهل الكلام بين الحد والحقيقة، فكيف نقدر فيه أن يعلم منفرداً من الأشياء وهو نفس الأشياء، فإن أراد لفظ الحدود معناه وهو يعلم منفرداً وله حقيقة لا تؤدي إلى التسلسل، وهي ما قدمنا من أن الحد: كل أمر يكشف عن معنى أمر آخر ويحصر معناه وفائدته إلى آخره ولا يمكنه تدريج ما هذا حاله؛ لأن الحد يراد للبيان، ويجب أن يكون أجلى من المحدود وليكشف معناه للسامع إلا أن يكون المحدود جلياً، ويريد بالتحديد التحقيق والتفرس، وإذا قد صح لك من معنى الأشياء والحدود ما قدمنا كيف ينتقض كلام الزيدية والحال هذه.
وأما قوله: فبما يعرف الحد؟ فهذا خطأ بني على وهم لأنه يوهم أن الزيدية تدعي أن شيئاًمن الأشياء لا يعلم إلا بالحد وليس ذلك عندهم؛ لأن عندهم أن الأشياء يعلمها من لا يعلم لفظ الحدود لأن العلم بالشيء هو علم بحقيقته وحقيقة الشيء حده، ويبقى الحدث؛ فإن عندنا أن حد الجسم: هو الجواهر المؤلفة طولاً وعرضاً وعمقاً، وقد يُعلم الجسم بالمشاهدة من لا يعلم هذا التفصيل وإن كان عنده معناه بأنه إذا شاهد الجسم على حالة شاهده كائناً، كما قدمنا تفصيله، فتفهم ذلك موفقاً.(1/99)


مسألة
قال تولى الله إرشاده: قالت الزيدية: إن المتشابه من القرآن ما التبست معانيه على سامعه فيبقى متردد الفهم بين المعاني. قال: وغرضهم بذلك تأول ما يعارض مذهبهم من محكم كتاب الله قال: والصحيح أن المتشابه عند علماء السنة والجماعة: هو ما وصف الله به نفسه وتفرَّد بعلمه كاليد، والجنب، والساق، والوجه، والعين. قال: هو المروي عن عائشة، والحسن، وكثير من الصحابة والتابعين، قال: وهو معنى قوله تعالى: ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ?، ثم استأنف بقوله: ?وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا?[آل عمران:7] قال: ومن وصل القراءة فقد كفر.
قال: فهذه الآيات لا يجوز تفسيرها ولا تأويلها ولا حملها على ظاهرها، قال: لأن متأولها كافر ، والحامل لها على ظاهرها مشبه كافر، قال: بل استأثر الله سبحانه بعلمها.
الجواب: اعلم أرشدك الله أنا لا نستغني عن مقدمة نذكر فيها المتشابه بحقيقته، والمحكم بحقيقته؛ لأن بجهل معنى المتشابه والمحكم هلك كثير من الناس فادعى في المحكم أنه متشابه ، وفي المتشابه أنه محكم كما فعل السائل أرشده الله، ونذكر أنه لا يجوز من الحكيم تعالى أن يخاطبنا بخطاب لا نتمكن من معرفة معناه، فإذا تقررت هذه المقدمة تكلمنا على ألفاظ المسألة إن شاء الله بما يشفي علة الطالب، ويطفئ أوار الراغب، وبه نستعين.(1/100)


اعلم أن المتشابه قد رجع به إلى المماثلة كما يقول أهل اللغة: هذا شبه هذا أي يماثله في بعض أوصافه أو كلها، كما حكى سبحانه نعيم الجنة: ?وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا?[البقرة:25] يحتمل في الصور ويحتمل في جلالة القدر، وقد يرجع إلى الإلتباس الذي هو الاشتباه، كما حكى سبحانه عن بني إسرائيل في فزعهم إليه في كشف اللبس لقوله: ?إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا?[البقرة:70] أي يلتبس بعضها ببعض، ونقول هذا أمر مشتبه أي ملتبس، كما قال أحد أهل العلم باللغة:
فلا يخدعنك لموع السراب .... ولا تأتِ أمراً إذا ما اشتبه(1/101)

20 / 170
ع
En
A+
A-