ويسمون العنب المعتصر خمراً لأنه يؤدي إليه، ويقول: أشبعني الخبز وأرواني الماء لما حصل الشبع والري عند تناولها، وإن كان الله هو المشبع المروي بما خلق من المأكول والمشروب والشبع والري ولو كان المأكول الذي يحصل بطبعه وإحالته لما اختلف الحال فيه، والمستعطش لا يروى، والنهم لا يشبع، وقد حصل الأكل والمأكول، والشرب والمشروب، وإضافة النفع إلى الماء والذهب والفضة وغيرهما مما ذكرنا من حصول النفع معه وفيه، والنافع على الحقيقة هو الله سبحانه لأنه الذي يجب شكره وعبادته على ما أولى وأسدى من نعمه الباطنة والظاهرة، وكذلك قوله تعالى: ?فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ?[النحل:5] فلا ينكر ذلك أن النفع فيها الدفء، ولكن حديث المسلمين أن الله المدفئ والنافع، ولهذا امتنَّ به علينا، ويجب شكره علينا؛ فلو كان حاصلاً لغيره أو من فعل غيره أو بغير قصده لما وجب شكره وهو يتعالى عن ذلك أو بإحالة الجسم كما تقول المطرفية، أو طبيعة كما يقول الفلاسفة لكان خارجاً عن اختياره.(1/6)
وكذلك ما ذكرنا من قوله ((كل مسكر حرام)) و((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) وغير ذلك فلا شك في صحة إضافة الفعل في اللغة إلى ما يصح أن يفعل وإلى ما لا يصح أن يفعل، وإلى ما يستحيل أن يصح الفعل منه، ولا مانع من ذلك في اللغة العربية، فقوله: الكثرة والقلة لا تجوز على الله سبحانه، ومرامه بذلك أن يبطل كون الفعل في الحقيقة صنعه، وتدبيره محنة وعقوبة، أو نعمة فيما يتعلق بالنفع من صنعه دون غيره وذلك برء ودلالة التعطيل من التوحيد والتوفيق نعوذ بالله من الخذلان، فالسكر هو زوال العقل والعقل من أجل النعم على العبد، فإزالة عقله بالسكر نقمة، وخذلان لشارب الخمر، ويستحق عليه السب، كما يقول في المرجوم: إنا نلعنه ونذمه لأن ما نزل به من العذاب وإن كان من فعل الله، أو في الحكم كأنه من جهته، لفعلنا في الحدود وهو في التقدير الثالث كأنه من فعل المحدود؛ لأنه فاعل سببه، كذلك كالعذر بسبب العقل، أو حريق النار، وقد يكون حسن العذاب رحمة، كما نقول في حريق النار هو نقمة للكفار والفساق، ونعمة على زبانية النار، من الملائكة الأبرار، وكذلك زوال العقل بالسكر نقمة وعقوبة، وزواله بالنوم نعمة ورحمة، فتفهم ذلك، وعرِّفه المحقق، فالسكر يضاف إلى الخمر في اللغة حقيقة؛ لأنها سببه الاعتيادي، وحاصلة معه أو عقيبه وذلك جائز، ولا فاعل لها طعمها وريحها وحدتها إلا الله، وقد سمعنا منهم وقت مناظرتهم أنا نقول: يخلق الباري النجس، قلنا: نعم، التنجيس والتطهير حكم يلزم فعله تعالى، فالميتة فعله وهي نجس والدم وهو كذلك، وقد ردَّ سبحانه النجس طاهراً، والطاهر نجساً بقدرته،(1/7)
ولا اعتراض عليه، فالمني نجس، فإذا خلقه إنساناً كان حكمه الطهارة، أو حيواناً مخصوصاً كالبهائم والسباع إلا الكلب والخنزير، فما في هذا من العجب، وكذلك يرد الميتة سبحانه والنجس طاهر بأن تبدل حالته الأولى بحالة ثانية كالميتة تزد بها ملحاً، فأما ما ذكر من الحقيقة والمجاز، فذلك يرجع إلى استعمال أهل اللغة أو الشرع، اللفظة فإذا كثر لم يمتنع أن تعود الحقيقة مجازا كما يقول في المكان المطمئن من الأرض، كان يسمى غائطاً على الحقيقة فلما كثر قضاء الحاجة المخصوصة فيه سموه غائطاً، وصار لفظ الغائط حقيقة فيها ومجازاً في الأول، فإن قيل: وكيف يستحق الذم على السكر وهو فعل الله سبحانه؟.
قلت: لأنه في الحكم كأنه من قبل المتعبد لارتكابه المحظور، وإلا فقبل التعبد بتحريم الخمر.
كان أهل الملتين في استقامتهما اليهود والنصارى يسكرون فلا يذمون السكران ويذمّون من يذمّه لأنه ذمّ من لا يستحق الذَّم، ولأنّا قد نذم الإنسان على فعل الله سبحانه إذا كان في الحكم كأنه من جهته، ألا ترى أن رجلاً لو ترك صبياً تحت المطر فإن ما يصيبه من فعل الله سبحانه وإرادته، ونذمّ التارك للصبي على نفس فعل الله سبحانه ويستحق عليه الذمّ لأنه في الحكم من جهته، ولولا ضيق الوقت لبينّا لك المجمل بحده وحقيقته والمجاز مثل ذلك، وبينّا خلل سؤال السائل المحقق المدقق فضلاً عما يطلب من الإلزام وينفى من الإلتزام، ولعل فيما تقدم كفاية من نسخه.(1/8)
المسألة الثانية في رؤية الاعراض
قال هل أدرك البصر اللون والملون جميعاً أم على الانفراد، أم على سبيل المجاورة والممازجة، وأتى بدليل آخر قال: الأجسام لما كانت مشاهدة لم يختلف العقلاء في رؤيتها والأعراض مختلف فيها؟
الجواب عن ذلك: إن قسمته في إدراك الألوان ليست بحاصرة ولا دائرة بين نفي وإثبات، فما وجه ذكره لها ولكنه لتدقيقه لا يفهم اللازم من المتقلب، وعندنا أن اللون يدرك في محله وهو الجسم فلا تنافي بينهما، لأنهما لو تنافيا لم يجتمعا، ولا بين تنافي إدراكهما إذ الموجب والمصحح واحد.
وأما قوله: المجاورة والممازجة فجهل محض إذ المجاورة والممازجة لا تكون إلا في الأجسام وما هو في حكمها ، وقد كلفنا على ذكر ما لا يعرفه ولكن الجواب أوجبه.
وأما قوله: العقلاء لا يختلفون في الجسم واختلفوا في العرض، فذلك غير دليل على نفيه إذ العقلاء قد اجتمعوا على نفي الأثر من غير المؤثر جملة ثم اختلفوا في الصانع.(1/9)
وهكذا أجمع العقلاء على أن هناك لون ما خلا نفاة الأعراض، قال بعضهم: لا نراه، والدليل على أنه يرى أنه لا طريق لنا إلى العلم بالشيء إلا فعله أو حكمه أو مشاهدته، ولا فعل للون ولا حكم، فلم يبقى إلا المشاهدة وإلا بطل العلم به بعد ثبوته، وقد ثبت كون السوفسطائي من العقلاء وهو ينكر حقائق المشاهدات وإنما يعتبر أن العقلاء لا يختلفون في الشاهد مع اتفاق الدواعي، فأما مع اختلافها فيجوز اختلافهم فيما يعلم ضرورة خلافه، قال الله تعالى في اليهود: ?يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ?[البقرة:146] يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنكروا ذلك، ومعرفة الابن ضرورة، ولأنا نعلم ضرورة أن الحيل هو الذي كان أمس، وأن المدقق الذي ناظرك يلقاك إن عاش مرة أخرى إن توفق اللقاء، والمطرفي الذي قد تعدت أسبابه من كثرة الاستعمال، وادعاه أنه من عقلاء الرجال يباطن على أن الحيل قد استحال، وانقلب على الأحوال، لأنه كان بالأمس حاراً واليوم بارداً وبارداً وهو اليوم حار، فقد رأيت اختلافهم لاختلاف الأعراض فيما يعلم ضرورة خلافه.
فأما فيما لا يختلف فيه العرب فلا يجوز اختلافهم فيه، فتفهم ذلك فإنه يدلك على شيء كثير.(1/10)