تباب، ما ظنك بأهل بيت عَمَرَهُ التنزيل، وخدمه جبريل، لحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودمه، وشعره وبشره وعترته، مصابيح الهدى، وأعلام الحجى، وأقمار الدجى، وليوث الوغى، وبحار العطاء، وعبور الحدى، وسيوف اللقاء، جفتهم الأمة، فازدادوها على الجفوة لها نصحاً، وباعدتهم فزادهم إليها قرباً، وأبغضتهم فمحضوها حباً، استأثرت عليهم بحقهم وبهم نالت ما نالت، وآلت أمورها إلى ما آلت، وهي عنهم نافرة، وإليهم بالمساءة ظافرة، لا قبلت منهم الهداية فتهتدي، ولا وردت عندهم الروي، يقول أحدهم: أخبرني أبي عن أبي، والأب الآخر النبي والوصي سلام الله عليهما وعلى آلهما، فما ظنك بفخار أصله محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين سلام الله عليهم أجمعين.
في الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء، ((أن الرب عز وعلى قال له: من خلفت على أمتك؟ قال: يا رب، أنت أعلم. قال: يا محمد، خلفت عليهم الصديق الأكبر، الطاهر المطهَّر، زوج ابنتك، وأبا سبطيك. يا محمد، أنت شجرة، وعلي أغصانها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمرها، خلقتكم من طينة عليين، وخلقت شيعتكم منكم، إنهم لو ضربوا على أعناقهم بالسيوف لم يزدادوا لكم إلا حباً)) وهذا الحديث من درر الأحاديث الثمينة؛ لأنه قبل النكاح والولادة.
وأما ما حكي من شيعتهم وشدة حبهم، فقد شهد به كربلاء وما جانسه من أيام التمحيص والبلاء، فهم الفرقة الوسطى، إليهم يرجع الغالي، وبهم يلحق التالي، أحرزوا العلم الأول والآخر، وفازوا بثمينات المفاخر، فما أولاهم بقول الشاعر:
أولئك قوم إن بنوا أُحسِنَ البنا .... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها .... فإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا(1/91)
وإن قال مولاهم على جل حادث .... من الأمر ردوا فضل أحلامكم ردوا
ونستغفر الله ونتوب إليه كيف يُقَرَّض بالشعر من جاء مدحهم في محكم القرآن في قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ?[الطور:21]، وأنزل فيهم تأكيداً وتكريراً : ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:23] ولدوا بين التحريم والتحليل، ودرجوا بين التنزيل والتأويل، فهم آل الله، وعترة الرسول الأوَّاه، وبهم يفتح ويختم، وينقض ويبرم، وبذكرهم ختمت الصلاة، وباسمهم تولت الولاة، ولما بلغنا الرسالة التي أنشأها الشريف المكين، المعتمد الأمين، لسان المتكلمين، سليمان بن حمزة السراجي (……) الحسني مضمنة مسائل أوردها فقهاء الجهة اليمانية نصرة لمذهب القدرية، واعتراضاً على العصابة الزيدية، وجاءت إلينا في حال أشغال عارضة بتدبير الرعية، ومنابذة الجنود من ظلمة البرية، ولم يكن فيها ما يكسر ركن الدلالة، فنبادر إلى حلها، ولا يهزم جند المقالة فنشمر لفلها، فلما وردت المطالعات الشريفة من الشريف الأمين من الشيخ المكين ظهير الدين مفضل بن منصور بن أبي رواح مستدعية لم نر إلا التلبية على تراكم الأشغال، فأوردنا المسائل مستوفين، وأجبنا مختصرين، ونرجو أن يكون فيما نذكر كفاية لمن رضع خلف الهداية، ومن الله سبحانه نستمد المعونة والتوفيق، ونستوهب الهداية للتحقيق ،
والصلاة على محمد وآله.(1/92)
المسألة الأولى
قال السائل تولى الله إرشاده: إن العلم عندهم على وجهين: علم ضروري، وعلم استدلالي؛ فالضروري ما حصل من غير اكتساب ولا استدلال، قال: والكلام عليهم هو أنه لو كان كما قالوا لما جاز تعريفه بالحقائق والحدود، وتعليمه التلامذة بالتصوير والاستدلال، قال: وقد علمنا أن العبد يولد، وكذلك في سنين التربية لا يعرف شيئاً من الضروريات، قال: وقد قال تعالى في قصة الملائكة: ?لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا?[البقرة:32]، وقال تعالى: ?وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا?[النحل:78].(1/94)
الجواب عن ذلك وبالله التوفيق: أن الزيدية بل المحصلون من فرق الأمة تعلم أن العلم الموجود فينا لا يخلو من أحد أمرين: إما أن ينتفي عن اليقين بالشك والشبهة إذا انفرد فهو الاستدلالي، وإذا لم ينتفِ بذلك فهو الضروري، فإن نازع السائل بالمعنى فالمعنى موجود لكل عاقل ممن يعلم هذا التفصيل وممن لا يعلمه؛ لأن علم الإنسان بأحوال نفسه لا ينتفي مع سلامة العقل بالتشكيك، وإيراد الشبهة، حتى لو أخبرنا الغير عن نفسه مما يشككنا في شيء من حاله لبادرنا به إلى المارستان محاذرة من استحكام العلة وغلبة الوسواس، ولو سألناه عن ذلك فقال: أمهلوني حتى أنظر وأستدل حتى تحصل المعرفة لكان الأمر كما تقدم، بخلاف الاستدلالي فإنه يقف على الاستدلال بالدليل على الوجه الصحيح، والنظر في المدلول بالفكر الثاقب الصريح، وهذان اسمان للعلم، وهو المعنى الموجود في أحدنا مقتضياً لسكون نفسه وثلج صدره إلى صحة ما اعتقده فما وقف على اختيارنا وحصل بحسب نظرنا واستدلالنا فهو الاستدلالي، وما حصل فينا لا من جهتنا فهو الضروري، فإن نازع في اللفظ إذ يبعد من العاقل النزاع في المعنى ففيه جوابان: أحدهما جملي، وهو أن هذين الاسمين إصطلاحيان من أهل العلم بعلم الكلام، ولا وجه للنزاع في الأسماء الإصطلاحية لا من قبل الشرع ولا من قبل اللغة ولا من قبل العرف، فسقط الإعتراض.
وأما التفصيلي فإن الضرورة أصلها الضيق اضطره إلى كذا وكذا ألجأه إليه، ومنه اضطرار الحافر أي صفة، كما قال شاعرهم يصف حافر فرسه:
لا ردح فيها ولا اضطرار .... ولم يقلب أرضها البيطار(1/95)
فلما كان العلم الذي قدمنا صفته يلجئ صاحبه إلى اعتقاد صحته حتى لا يقع منه خلافه سمي ضرورياً، ولما كان المسمى استدلالياً يطلب له الدليل؛ والدليل هو كل أمر إذا نظر فيه على الوجه الصحيح وصل الناظر إلى العلم اليقين إذ ما لا يكون بهذه الحال لا يسمى دليلاً بل يكون أمارة وعلامة ورسماً إلى غير ذلك، فاشتق هذا الاسم من المعنى والاشتقاق مهيع اللغة والعربية، وفيه معنى النسبة.
وأما قوله: لو كان ضرورياً كما قالوا لما عرف بالحقائق والحدود؛ فأي وجه لما ذكروا (ما به) أمر جلي إلا وله حقيقة وحد، كما أنا نقول في حد النهار: هو الضياء المنتشر عن قرص الشمس بين وقتين مخصوصين ولا فرق عند أهل التحقيق بين الحد والحقيقة، فإن أردت بالحد نهاية الشيء خرجت من ميدان الكلام وكان حد الشيء نهايته لغةً.
وأما قوله: وتعليمه التلامذة للتصوير والاستدلال فخلف من القول؛ لأنا لا نفتقر في الضروري إلى معلم تصوير ولا نصب دليل ولو قال لنا بعضنا في بعض الضروريات: صوَّروا لي حتى أعلم ما علمتم لم يعترينا شك في اختلاله، وتحول حاله، ولو نصب دليلاً وأنعم النظر في الاستدلال حال كونه في المسجد مثلاً هل هو فيه أم لا لتبادر العقلاء إلى تأفينه وتضعيفه.(1/96)