وأما ما ذكر من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو أعلى وأشرف من أن يخالف، وكيف وهو لا ينطق عن الهوى والنص ما جاء به، ولا مجال للاجتهاد مع وجود النص، قال والخلاف في قوله: ((إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) وقد أو ردها السائل على غير هذا الوجه، وهذا سماعنا والمعنى واحد.
فنقول للسائل: إنا لم نأخذها إلا بحقها وهو أنه لما عصى الله سبحانه أخذنا ماله عقوبة، واجتحناه نكالاً، لأن الخبر إن حمل على عصمة النفس والذم على كل وجه انتقض عند الجميع؛ لأن المحارب يقتل وتقطع يده مع السلب، ويؤخذ مال صاحب الدين، ويشترى بماله الكراع والسلاح للبغي إلى غير ذلك، وإن قال على وجه دون وجه وقد ورد في متن الخبر الشريف، قلنا : وكذلك نقول : يؤخذ على وجه دون وجه إن رأى ذلك الإمام صواباً جاز وإلا لم يجز.
وأما قوله عليه السلام للقوم: فأيكم يأخذ عائشة رضي الله عنها [كذا في الأصل].(1/76)
وأما قوله: إن علياً عليه السلام معصوم مقطوع على عصمته بعينه، وكذلك نقول: إنه معصوم من الكبائر دون الصغائر؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لم يعصموا عنها أعني الصغائر وهو دونهم، وعندنا أن قول غيرنا من المجتهدين حق وصواب، فكيف بقوله، ولكنا نقول: إن تعبدنا باجتهادنا في الشرعيات دون اجتهاده ولا يسعنا إلا ذلك ، وإنما جادلهم عليه السلام بالكلام إلى آخره لأنهم أرادوا أن يجعلوا دار الفاسقين دار كفر ونحن نقاتلهم بحججه عليه السلام وبما ألهمنا الله سبحانه من معاني كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم .
وأما قوله: لِمَ فرقنا بين الأموال والذراري، فلما قدمنا من الحكم بين الحكمين والاسم بين الاسمين تركنا الذراري.
وأما قوله: إن السيرة في البغاة أخذت عن علي عليه السلام، فلا شك في ذلك وأنه بحر العلم وباب المدينة، ولم يؤخذ عنه إلا بحدوثه في عصره إذ لم يقل أحد ممن كان قبله إلا بحرب الكفار، وأبو بكر بحرب أهل الردة ، وعمر بأصحاب الثغور، وكان في عصره الفساق من جهة التأويل، فحكم فيهم بذلك، ولم يحدث في جهته فساق من جهة التصريح يعلم رأيه عليه السلام فيهم، وإن جاز أن يختلف الاجتهاد، فقد حارب عباد الله قبل حربه وهم كشافة الكرب عن وجه رسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فوفقه الله وسدده لما حكم به فيهم ولم يكن الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى يجعل حكم البدريين والأحديين والعقبيين مثل حكم العقبان والنسور والجوابر هذه قبائل في الشام من همدان متهتكة في المعاصي.(1/77)
وأما ما ذكر أن كتب الزيدية مشحونة بما ذكرته، فجوابنا أن قولنا هذا مما يزيد الزيدية في علمها ويشحن به كتبها لأنه لم يكن للزيدية فيما تقدم إلا مجموع الفقه عن زيد بن علي عليه السلام، فصارت الكتب اليوم أحمال الإبل لتصنيف من صنَّف من أهل البيت وزيادة من زاد، وإن بلغ الله المراد، ومكن من ثني الوساد، بدمار أهل البغي والفساد، صنَّفنا في فقه الزيدية ما يشفي كل راغب، ويغني كل طالب، لا نستثني إلا مشيئة الله سبحانه، وقد خلط السائل أهل الجمل والنهر وصفين في الحكم عند علي عليه السلام، ولم يكن الأمر كذلك؛ لأن علياًّ عليه السلام رفع السيف عن المدبر يوم الجمل، ولم يجهز على الجريح، وردًّ رقيقاً من رقيق أهل النهروان وهو محتمل لأنا نقول: يجوز أن يكون ذلك تألفاً لعشائرهم لأنهم كانوا من كل قبيلة، واستصلاحاً لمن بقي في عسكره من أهل الرتبة، وإن كان من أصحابنا من قال: إنما كان ذلك لأن الرقيق كان من العسكر ناحية.(1/78)
وأما ما قال من أنا نقول: إن متابعة علي عليه السلام واجبة ومخالفته غير صائبة فذلك حق عندنا في اتباعه في الدعاء إلى الحق، والدلالة على الرشد، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وسد الثغور، وسياسة الجمهور، ولم نقل: إنه لا يجوز خلافه في مسائل الاجتهاد، لأنا لو قلنا بذلك لفسَّقنا الصحابة رضي الله عنهم لأنهم خالفوه في المواريث وغيرها من مسائل الشرع، وكذلك الفقهاء من بعد كأبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما ومالك بن أنس وغيرهم، ولم يقل أحد بذلك من سلفنا سلام الله عليهم ولا قلنا به ولا نقول به إن شاء الله تعالى، ومخالفته عندنا بمعنى المشاقة والمعاداة، والتغطية والمنافاة، وهذه غير صائبة عند جميع أهل البصائر من المسلمين، وعناده عندنا ظلم مبين، فإما أن نجتهد في مسائل الشرع اجتهاداً يخالف اجتهاده فلسنا من ذلك مانعين، ولا منع منه أحد من المسلمين، إلا ما يحكى عن جهَّال الإمامية فليسوا معدودين من طبقات الراسخين.
وأما ما ذكره من قوله قالوا: إنما نأخذ ما نأخذ من مال الفاسقين لتأخرهم عن الخروج إلى إمام المسلمين ومعاونة الظالمين، فقد أصابوا في قولهم؛ لأن تأخرهم عن الإمام معصية، ومعاونتهم للظالمين معصية.(1/79)
وقد بينا أنهم إنما يؤخذون عقوبة على المعصية، ولا أعظم معصية من هذين الوجهين لأن في الأول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سمع داعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخره في نار جهنم)) ولا وعيد أعظم من هذا، وفي الأخرى لا أعظم من كون المؤمن ظهيراً للمجرمين، وإن كنا لا نشك في أن الضعفاء هم الذين لبسوهم الحرير، وركبوهم الذكور، وسقوهم الخمور، فأي عون أعظم من هذا، وقد احتج إخوانهم فيما تقدم فرد الحكيم سبحانه حجتهم خاسئة داحضة بقوله تعالى: ?فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ? فردَّ ذلك تعالى بقوله: ?أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا?[النساء:98] وصدق الله العظيم وبلغ رسوله النبي الأمين الكريم، لقد بلغ فأوسع، ونادى فأسمع، فالحجة له لا عليه.(1/80)