المسألة الثالثة في ترتيب الديوان وجواز المفاضلة بينهم في العطاء
مع كون الفاعل لذلك قسم بالسوية، وعدل في الرعية وما الدليل؟
الجواب عن ذلك: اعلم أيدك الله أن الديوان حادث في زمن عمر، وكان الأمر بعده جار عليه، وقبله غير منتظم لوجهين:
أحدهما قلة الأموال التي تحتمله. والثاني: وهان خواطرهم عنه، فلما اتسعت مملكة الإسلام زادها الله سعة وكثرت أموالهم ذكر لعمر أصله من مملكة الفرس فاستحسنه، وقال: الإسلام أولى بهذا، واجتمع في بيت المال عشرون ألف ألف درهم وثلاثون ألف ألف دينار ، فدعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وهؤلاء شباب قريش والعرب وقال: اكتبوا الناس على منازلهم فبدؤوا ببني هاشم، ثم أتبعوا رهط أبي بكر ورهط عمر، فلما رآه قال: وددت أني من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المنزلة من القرابة، أنزله عمر حيث أنزله ربه، فجعلوا عمر في الطبقة الثامنة من قريش، والشرح يطول، وكان ابتداء الديوان سنة عشرين، وأجمع على البداية علي بن أبي طالب سلام الله عليه، ولبعضهم خلاف في العباس رضي الله عنه خمسة آلاف، وألحق به سبطي رسول الله ، وألحق بهما العباس رضي الله عنه.(1/56)
هذا على ما يصح عندنا، ثم ألحق بهم من شهد بدراً من قريش في خمسة آلاف، ومن شهد بدراً من الأنصار في أربعة آلاف، ومن شهد أبوه بدراً في ثلاثة آلاف ، والمسلمون من قريش بعد الفتح في ألفين ألفين كأبي سفيان وولده معاوية، ولأمهات المؤمنين ستة آلاف، قيل فضل عائشة بزيادة ألف، وحفصة، وأن عثمان ردهما إلى عطايا أمهات المؤمنين، فكان ذلك أصل العداوة بين عثمان وعائشة، ومعتقاته التي جعل عتقهن مهرهن في خمسة آلاف، وجعل عمر لنفسه أربعة آلاف، وألحق أولاده بأعطيات قريش، ولأهل مكة الذين لم يهاجروا ستمائة وسبعمائة، وفرض لأهل اليمن أربع مائة، ولمصر ثلاثمائة، ولربيعة مائتين مائتين، وفرض لنساء من المسلمين فاضلات من ألفين إلى ألف إلى خمسمائة كأسماء بنت عميس، وأم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط، وخولة بنت حكيم من الأوقص امرأة عثمان بن مظعون، وفرض لكبار الأعاجم كفيروز بن يزدجرد، وجميل وخالد ابني صهيب، والهرمزان، وغيرهم من ألفين ألفين، وقال قوم أشراف أو وددت أن أتألف بهم قومهم، فاستقر الديوان على هذا بإجماع من غير مناكرة ولا منازعة.
هذا هو الدليل على المفاضلة لأنها واقعة كما ترى بمحضر الجميع ورأيهم.(1/57)
وأما قوله أيده الله: كيف يصح صفة من هذا بقسمة التسوية والعدل في الرعية ولا مانع من ذلك لأن حكم المسلمين تقسيم المواريث عشراً وسدساً ونصفاً وربعاً إلى غير ذلك، ولا ندري أيهم أقرب نفعاً للميت، كما قال الله تعالى، ويوصف بقسمة السوية لأن أصل السوية الفعل، لأن الله تعالى رفع سمك السماء فسواها وهي ذات حبك وطرائق، كما ذكر في آية أخرى، وقوله تعالى لا يتناقض ولا يختلف، وقال تعالى: ?الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى?[الأعلى:2] وفي خلقه الزيادة والنقصان يعلم ذلك ضرورة، ولهذا ضلت الفرقة الجاهلة، فرفعت حكم المشاهدة، فأنكرت الضرورة بصفة الإمام، والحال هذه أنه قسم بالسوية بمعنى قسم على وجه يغلب في ظنه المصلحة لأن علم الغيب مستحيل على العباد، وهو عدل لأنه حكم بحكم الله، ونحن نصف الباري بالعدل، وأنه أعطى أحدنا ألفاً والآخر درهماً، إذ العدل هو إيفاء حق الغير واستيفاء الحق منه، ولا حق لنا في ماله إلا ما أعطانا، ولا في الغنائم إلا ما أعطانا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يختلف أحد في جواز التنفيل وما هي المفاضلة إلا هذا، وإنما أهلك الناس أيدك الله تعالى هواجم نجمت في الإسلام لم ترتضع بثدي الهدى، ولا اغتذت بدر الحكمة، ولا سألت ورثة العلم عن علمها، ولا أرباب الكتاب عن كتابهم، وعملت برأي السفهاء تمرداً على الله ولن تعجزه، وعذاره للحق ولم تنقصه، ولم يهمل الله دينه، وقد أيده بحفظه، وحرسه بحماته من عترة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الذين هم تراجمة الكتاب، وأعرف الناس بالهدى والصواب، لم يضل من تبعهم، ولا يعمى من استضاء بنورهم.(1/58)
المسألة الرابعة
في كتب موقوفة على قائم الحق من آل الرسول قبل قيام الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان بن الهادي إلى الحق عليه السلام منها ما قبضه، ومنها ما قبضناه، ومنها ما لم يقبض، ما الحكم في ذلك إلى نهاية كلامه أيده الله تعالى؟
الجواب في ذلك: أن كل وقف جرى هذا المجرى فهو لقائم الحق مدة حياته، وإذا مات كان للقائم بالإمامة بعده، ولا فرق في ذلك بين ما قبضه الأول والآخر، ولما لم يقبض في أنه له في حياته ثم بعده لا يكون لوارثه إلا أن يكون إماماً كان له بالإمامة لا بالوراثة؛ لأن الأول ما ملكه لأنه وقف على من تكون هذه صفته كالذي يقف على الفقراء الغير معينين، إنما تكون لمن تكون صفته الفقر، ولا ينتقل إلى الوارث إلا أن يكون على مثل حال الأول، وهذا الذي يقوى عندي أن أعمل به في ما صار إليّ مما هذه حاله أبين الحكم فيه، إذ لا آمن أن يأتي من لا يفصل هذه القضية فيدخلها في بابها، ومن الله نستمد الهداية.(1/59)
المسألة الخامسة
فيمن لم يبلغ في العلم درجة الاجتهاد فيكون على قول بعض المجتهدين، ثم يقع الكلام في مسألة من المسائل ترد فيها أقوال العلماء، ويرى قول غير المجتهد الذي هو على مذهبه أولى وأرجح بما يصح عنده من الدلالة، هل له أن يأخذ بذلك القول أم لا؟ أم لا بد من أن يكون قد بلغ درجة الاجتهاد؟
الجواب: اعلم أيدك الله بتوفيقه أن الكلام في هذه المسألة يفتقر إلى تعليل وشرح طويل لو تمكنا من استقصاء جوابها وفتح أبوابها، وإنما نذكر المهم.
اعلم أن المقلد يجتهد على وجه، ومعنى ذلك أنه لا يقلد إلا من أداه اجتهاده إلى تصويبه في أقواله، وترجيحه على غيره، وحصول العلم أو غلبة الظن على صحة ما جاء به، ومن كان عنده بهذه المنزلة لم يجز له أن يرجع إلى رأي غيره إلا أن يصح له على سبيل الجملة باجتهاد آخر إن غيره أولى منه باتباعه، فيكون قد انتقض اجتهاده الأول.
فأما في الأقوال التي أثبتنا صحتها على الأدلة الحقيقية، دون الأمارات الشرعية، من المسائل الشرعية، فإنه إذا صح له الدليل في المسألة عمل به دون قول من يقلده، ولا ضير عليه في ذلك.(1/60)