أما الكتاب قوله تعالى: ?وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ?[الحج:78] ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الله اختارهم له شهداء، والثاني أنه لو لم يكن قولهم حجة لما اختارهم ، فالذي دل على الأصل الأول وهو أنه اختارهم شهداء فظاهر الآية ينطق بذلك في قوله: ?هُوَ اجْتَبَاكُمْ?[الحج:78] والاجتباء هو الاختيار، وظهوره في اللغة يغني عن الاستشهاد عليه فثبت الأصل الأول.
وأما الأصل الثاني وهو أنه لا يختار له شهداء إلا من يكون قولهم حجة واجبة الاتباع، فما دل عليه عدله وحكمته يوجب ذلك ، ألا ترى أن قاضياً من قضاة المسلمين لو قال: قد اخترت فلاناً شاهداً ووجب عندي قطع الحق بقوله، لدلنا ذلك أنه قد رضي بقوله وثبتت عدالته عنده، وأنه لا يقول إلا ما يجب العمل به فعلام الغيوب أولى بذلك إذا اختار هذا النصاب للشهادة على الناس دل ذلك على أنهم عدول عنده وأنهم لا يقولون إلا الحق، وما ذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون.(1/46)
وقول من يقول إن عموم الآية يتناول جميع ولد إبراهيم من اليهود والنصارى وغيرهم من ولد إبراهيم من سائر القبائل، قول لا وجه له، لأنه وإن كان كذلك فإن الأخبار الواردة من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أوجب متابعة من عدا عترته من القبائل، فالآية وإن كانت عموماً قد خصتها الأخبار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب والسنة محدثان إلى جهة واحدة ، فلا يجوز الفرق بينهما، ولم ينص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أن قول غير عترته من القبائل حجة، فيجب حمل الآية على أن المراد بها عترته عليهم السلام دون سائر ولد إبراهيم لهذه الدلالة، فهذا الذي دل عليه الكتاب.
وأما السنة فالدلالة منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) والكلام في هذا الخبر يقع في موضعين: أحدهما في صحته في نفسه، والثاني: في وجه الاستدلال به، أما الكلام في صحته فإن ظهوره بين الأمة وانتشاره فيها بحيث لا دافع له ولا راد له، دلالة على صحته، لأنه لو لم يكن من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لدفعوه وردوه لأنه يتضمن وجوب متابعتهم قولاً وعملاً واعتقاداً، وذلك وجوب وجوب اتباعهم في الأصول والفروع على ما بينه.(1/47)
وأما الوجه الثاني: فهو أن ظهور هذا الخبر جار مجرى ظهور الأخبار الواردة في أصول الشريعة كالصلاة والزكاة، والحج، والصوم، لأن وصولها إلينا على حد واحد والعلم لنا بأحدها كالعلم بالآخر، فالمنكر لذلك متجاهل أو جاهل.
وأما وجه الاستدلال به فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمننا من الضلال أبدا ما تمسكنا بعترته، والتمسك بهم هو متابعتهم في القول والعمل والاعتقاد، فلولا أن إجماعهم حجة لما أثبتنا.
وهذه الدلالة مبنية على ثلاثة أصول:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمننا من الضلال أبدا ما تمسكنا بعترته، والثاني: أن التمسك بهم متابعتهم في القول والعمل والاعتقاد، والثالث: أنه لو لم يكن إجماعهم حجة لما أمنا، فالذي يدل على الأصل الأول وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمننا من الضلال أبداً ما تمسكنا بعترته فذلك ظاهر في لفظ الخبر بحيث يستغنى عن تبيينه والاستدلال به عليه قال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا)) هذا في غاية الظهور والجلاء.(1/48)
وأما الأصل الثاني: وهو أن التمسك بهم هو متابعتهم في القول والعمل والاعتقاد فلأنه لا يحسن من أحدنا أن يقول إني متمسك بطريقة فلان ولكني لا أقول قوله، ولا أعمل عمله، ولا أعتقد اعتقاده، بل يعد من قال ذلك مناقضاً نازلاً منزلة من يقول إني متمسك بطريقة غير متمسك، ولأنه عليه السلام قرنهم بالكتاب ولا خلاف في وجوب متابعته الكتاب في الوجوه الثلاثة التي قدمنا، وكذلك العترة لأن حالتها عنده عليه السلام على سواء فإن قيل: ما أنكرتم من أن يكون ذلك في الأصول. قلنا: هذا الحكم عام لأنه لم يفصل، ولا الواجب في الأصول الرجوع إلى أدلة عقلية يجب اتباعها دعى إليها الواحد أو الجماعة، العترة أو غيرهم، وتجويز من يجوز ممن قال إجماعهم حجة، مخالفتهم في الفروع لا وجه له؛ لأنه لا يخلو إما أن يقول بأنه أمارة مفضية إلى الظن بخبر الواحد، أو دلالة مؤدية إلى العلم والقطع، فإن قال بالأول بطل الكتاب والسنة ولأنه لا يجوز مخالفة خبر الواحد في الشرعيات متى حصل الظن بصدقه، وإنما تجوز مخالفته عند فقد الظن، فقد ثبت بطلان جواز المخالفة على هذا الوجه، وإن قال بالثاني من الوجهين فكيف تجوز مخالفة المعلوم والمقطوع به إلى المظنون المتوهم إلى عين التنكب لطريقة الإنصاف.(1/49)
وأما الأصل الثالث: وهو أنه لولا أن إجماعهم حجة، ومتابعتهم واجبة، لما أمننا، فلأن المعجزات الظاهرة على يده عليه السلام قد أزاحت عنا تجويز التلبيس والتغرير في أخباره، فلو لم يكن قولهم واجب الاتباع لكان قوله عليه السلام: ((ما إن تمسكتم لن تضلوا)) أمان لنا من غير مأمون، واستدعاء لنا إلى ارتكاب المخوف، وذلك أعظم التغرير وأقبح التلبيس، وقد ثبت أنه لا يجوز عليه شيء من ذلك.
وأما الطريقة الثانية من الطريقتين المتقدمتين فهي: أنا نقول قد ثبت لنا بما قدمنا كون إجماع أهل البيت عليهم السلام حجة، فلا يخلو القائل أن إجماع الأمة حجة، إما أن يعتبر أهل البيت أو لا يعتبرهم، فإن لم يعتبرهم فقد أخرج أفاضل الأمة عن أن يعتد بهم ولا قائل بذلك ، وإن اعتبرهم، فالحجة لازمة لقولهم لما قدمنا، فلا معنى لجعل إجماع الأمة إجماعاً ثابتاً غير إجماع العترة.
فقد صح لك أن مدار الحق على العترة في الحالين جميعاً، وذلك يكشف عن أنه لا اعتبار بسواهم لأنا نجعل الحجة ما كان قائماً بنفسه بالدلالة، فلو ساغ جعل ما ليس بحجة حجة إذ انظم إلى الحجة حجة، لساغ قول من يقول: أن قول الواحد حجة يجب اتباعها إذا انظم إلى دليل عقلي وذلك ظاهر الفساد بمن الله وعونه.
فهذا هو الكلام في هذا الفصل على وجه الاختصار، ووفاءً بما وعدنا به في أول الفصل والآيات المنزلة والأخبار الواردة كثيرة واضحة أضربنا عن ذكرها كراهة الإطالة والسلام.
والحمد لله وحده وصلى الله على رسوله وآله وسلم(1/50)