وللشافعي محمد بن إدريس رضي الله عنه مشهور القيام والدعاء إلى يحيى بن عبدالله عليه السلام في أربعة عشر فقيهاً منهم: مخول بن إبراهيم، وعبد ربه بن علقمة، وسعيد بن حبيبي، وفليت بن إسماعيل ومرادنا الاختصار.
فهؤلاء فقهاء الأمصار كما ترى لا يرون إمامة لظالم لنفسه ولا لغيره، ولا بإطلاق الاسم عليه في الدعوة المجابة، وإنما يذهب إلى إمامة من لا يستحقها من أخذ الدنيا بالدين ولا خلاق له في الآخرة، فلا يعد خلافهم خلافاً وإن كبرت جماعتهم، فهذا هو الكلام في إمامتهما عليهما السلام على وجه الاختصار .(1/423)


[ الإمامة مقصورة في ذرية الحسنين ]
وإذا قد فرغنا من الكلام في إمامتهما فلنتكلم في أن الإمامة مقصورة في ذريتهما من سار سيرتهما وهدى وسلك منهاجهما وجمع خصال الفضل التي يصلح معها لتقويم أمر الأمة وسياستهما.
الدليل على ذلك قوله تعالى: ?وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ?[الحج:78]، ووجه الاستدلال لهذه الآية أن هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
أما أنه أمر فظاهر لأن فيه صيغته وشرطه، وأما أن الأمر يقتضي الوجوب لقوله تعالى: ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ?[النور:63]، والوعيد لا يقع إلا في ترك الواجب، فإن قيل: هذا عام في ولد إبراهيم عليه وعليهم السلام . قلنا: المعلوم ضرورة أن اليهود والنصارى لا يرادون بذلك؛ لأنهم أعداء الإسلام فهم ممن أمر الصالح بجهادهم، وبقي المسلمون من قريش وغيرهم من ولد إبراهيم داخلون تحته، فإن قيل: الجهاد يلزم والمسلمون من ولد إبراهيم جميعاً. قلنا: الجهاد لا يقع بالناس فرضاً لأن الإجماع قد انعقد أن لا بد من رئيس لكل جيش محارب، فيتضمن وجوب المجاهدة ووجوب نصب الإمام، فإذا قد وجب نصب الإمام منهم، وقد قال قائل: هي في قريش وخالفهم العترة بالمنع من ذلك، وأجمعوا معهم في جواز الإمامة فيهم، فقد وقع التسليم فيهم والنزاع في غيرهم، وكانت الإمامة فيهم بالإجماع الذي أكد الدلالة؛ لأن الناس في الأمة على ثلاثة أقوال: منهم من جعلها في الناس كلهم وهم الخوارج، فمن أجازها في الناس كلهم فقد أجازها في ولد الحسن والحسين؛ إذ هم من الناس بل من خيرهم.
ومن الناس من جعلها في قريش وهم المعتزلة ومن قال بقولهم، ومن أجازها في قريش فقد أجازها في ولد الحسن والحسين؛ إذهم من قريش بل من خيرهم.(1/424)


ومن أجازها في ولد الحسن والحسين أخذ بالإجماع، وتنكب سبيل أهل الخلاف وذلك بعد بطلان قول أصحاب النص، والدليل على بطلان قولهم أن التعبد بالإمامة عام ودعواهم في النص خاص، والتكليف بما لا يعلم أقبح من التكليف بما لا يطاق، والتكليف بما لا يطاق قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح؛ أما أنه لا يفعله فلعلمه بقبحه وغناه عنه وعلمه باستغنائه عنه؛ وأما أن التكليف بما لا يطاق قبيح فمعلوم ضرورة، فلو كان النص صحيحاً لوجب ظهوره بحيث يعلمه الكافة ولا سبيل إلى ادعاء علمه فضلاً عن وقوعه إذ يستحيل على وجود ما لم يوجد.
ومن (تفسير الثعلبي) بإسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال نحن حبل الله الذي قال تعالى: ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا?[آل عمران:103] وروايته مقبولة.
ومن (مناقب الفقيه ابن المغازلي) رفعه إلى أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله ً: ((إنما مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)) وهذا الخبر أيضاً مما تلقته الأمة بالقبول فصح أن يحتج به، وإذا قد علمنا أن أمة نوح كلها هلكت إلا من ركب السفينة، فكذلك هذه الأمة إلا من تمسك بالعترة، وجب على الأمة الرجوع إليهم، وإذا لم يكن الرجوع إليهم عموماً فليقع إلى الصالح، ولا بد للصالحين من إمام يكون هو والمفزع إليه والمرجع والكل كالمضاف إليه.
ومما يزيد ذلك وضوحاُ ما رويناه من حديث الثقلين، وقد ورد ذلك من طرق شتى وصح تواتره، وقد روي في الصحاح وغيرها من الكتب المأثورة والنقل المقبولة عند الأمة.(1/425)


وقد روينا بالإسناد الموثوق به إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: اعلموا أيها الناس أن العلم الذي أنزل الله تعالى على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيكم فأين يتاه بكم عن أمر تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة هؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السلم فادخلوا في السلم كافة، وهم باب حطة من دخله غفر له، خذوا عني عن خاتم المرسلين، حجة من ذي حجة، قالها في حجة الوداع: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).
فقد رأيت أيدك الله ما تضمن هذا الخبر من وجوب المبايعة لهم، والانقياد لأمرهم، والتمسك بهم، فإذا كان هذا في عمومهم، فهو في خصوصهم وأعيانهم، وأئمتهم أولى بطريقة الأولى وهي أقوى معتمد في الشرعيات، والإمامة شرعية فتفهم ذلك موفقاً إن شاء الله تعالى.(1/426)


[ اختلاف الناس في الإمامة وحكم من تقدم ]
وقد جاءنا سؤال فيما تقدم عن بعض ما نحن بصدده فأجبنا على وجه الاختصار، ورأينا أن نورد إليك المسألة مجردة لعل الله ينفع بها وهي هذه:
سألت أيدك الله عن اختلاف الناس في الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقدم من تقدم على علي بن أبي طالب عليه السلام.
اعلم أن الأمة مختلفة في الإمامة، فمنهم من أثبتها في أعيان مخصوصة في النص في أهل بيت النبوة عليهم السلام وهم الإمامية ومن حذى حذوهم، وهم مختلفون في أصل النص، وفي صورته، وكيفيته اختلافا كثيراً، ومنهم من اعتبر منصبا مخصوصاً وهم الزيدية والمعتزلة.
فقالت الزيدية: هي في ولد الحسن والحسين عليهما السلام بشرائط، واختلفوا في طريقها، فقالت الزيدية: طريقها الدعوة، وقالت المعتزلة: طريقها العقد ولم يختلفوا في الشرائط.
وذهبت الخوارج إلى أن الإمامة في الناس كلهم ما صلحوا لذلك، عربهم وعجمهم في ذلك سواء وطابقهم النظام في طوائف.
فهذا أصل الاختلاف في الإمامة وله فروع يطول شرحها ولا يمكن في الحال ذكرها.
ومذهبنا أنها في ولد الحسن والحسين عليهما السلام محصورة، والدليل على ذلك أنها شرعية فدليلها شرعي وهو الإجماع على جوازها فيهم، وعدم الإجماع على جوازها فيمن سواهم فوجب حصرها فيهم.
وقول أهل النص باطلٌ لأنه غير معلوم، والتعبد بالإمامة عام فلو صح لعلم، ولا تجوز الإمامة في الناس كلهم؛ لأنه لا دليل عليه وما لا دليل عليه لا يكون مذهبا صحيحا لأن المذهب دعوى فلا يصح بغير دليل.(1/427)

85 / 92
ع
En
A+
A-