فصارت جميع تلك المعاني فيما حددناه ترجع إلى معنى الوجه الأول الذي هو الأولى وتكشف عن صحة معناه، فيما ذكرناه في حقيقته ووصفناه، فتأمل ذلك ففيه بيان لمن تأمله. فإن قيل: فإذا ثبت أن لفظة (مولى) قد تستعمل مكان الأولى وأنها أحد محتملاتها، فما الدليل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد بها يوم الغدير الأولى دون أن يكون أراد بها غيره من الأقسام التي يعبر بها عنها؟ قيل له: مقدمة الكلام التي بدأً بذكرها وأخذ إقرار الأمة بها من قوله عليه السلام: ((ألست أولى بكم من أنفسكم)) ثم عطف عليها بلفظ يحتملها ويحتمل غيرها دليل على أنه لم يرد بها غير المعنى الذي قررهم عليه من دون إحدى محتملاتها؛ وأنه قصد بالمعطوف ما هو معطوف عليه، فلا يجوز أن يرد من الحكيم تقرير بلفظ مقصور على معنى مخصوص ثم يعطف عليه بلفظ يحتمله، إلا ومراده المخصوص الذي ذكره وقرره دون [أن يكون أراد بها غيره] ما عداه، يوضح ذلك ويزيده بياناً أنه لو قال: ألستم تعرفون داري التي في موضع كذا ثم وصفها وذكر حدودها، فإذا قالوا: بلى. قال لهم: فاشهدوا أن داري وقف على المساكين، وكانت له دور كثيرة لم يجز أن يحمل قوله في الدار التي وقفها على أنها الدار التي قررهم على معرفتها [ووصفها] وكذلك لو قال مثل ذلك في عبد من عبيده وقال: اشهدوا أن العبد حر، حمل على من قدَّم ذكره دون غيره .(1/398)


وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن مراد النبيً [بقوله]: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) بمعنى الأولى الذي قدم ذكره وقرره ولم يجز أن يصرف إلى غيره من سائر أقسام لفظة (مولى) وما يحتمله، وذلك يوجب أن علياً عليه السلام أولى بالناس من أنفسهم، بما ثبت أنه مولاهم، [مما أثبت النبيً بنفسه أنه مولاهم]، وأثبت له القديم تعالى أنه أولى بهم من أنفسهم، فثبت أنه أولى بهم من أنفسهم، فثبَّت أنه أولى بلفظ الكتاب العزيز وثبت أنه مولى بلفظ نفسه، فلو لم يكن المعنى واحداً لما تجاوز ما حد له في لفظ الكتاب العزيز إلى لفظ غيره، فثبت لعلي عليه السلام ما ثبت له في هذا المعنى من غير عدول إلى معنى سواه، ويزيده بياناً أيضاً أنا نتصفح جميع ما تحتمله لفظة (مولى) من الأقسام التي يعبر بها عنها، وننظر ما يصح أن يكون مختصاً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم منها، وما لا يصح اختصاصه به، وما يجوز أن يوجبه لغيره في تلك الحال مما يخصه، وما لا يجوز أن يوجبه، ومع اعتبارها لا يوجد فيها [ما يوجبه] لأمير المؤمنين عليه السلام غير الأولى والإمام والسيد المطاع؛ [لأن جميع الوجوه محتملة فتبين لك أنه لا يجوز أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى ما ذكرنا، فنقول وبالله التوفيق]:
أما المالك والمعتق فلا يصح أن يكونا مراده صلى الله عليه وآله وسلم لأن علياً لم يكن مالكاً لرق من كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مالكه، ولا يجوز له ما كان يجوز لرسول اللهً من الوطء وتوابعه، والعتق أبعد لأن الولاء لمن أعطي الورق، كما قالً: ((الولاء لمن أعتق ولا يباع ولا يوهب)).
وأما أنهما معتقان ومولاهما واحد فهما حرا الأصل معروفا النسب أباً، وأما الحليف والجار فلا يجوز أن يكون مراده؛ لأن من في درجة علي شركة في مثل نسبه، ولأنه لا يجوز أن تحتمل المشقة لمثل ذلك وهو معروف الشرعً وكانت المنة لمن عقد رسول اللهً الحلف.(1/399)


وأما خبره السكنى: فإخباره به ورفع يده يكون عبثاً.
وأما ضمان الحريزة فالخطاب وقع إلى الكافة ولا حرائز لهم ولا هو أيضاً يستحق مواريثهم.
وأما الناصر وابن العم فلا يجوز أن يكونا مراده؛ لأن ذلك معلوم ضرورة؛ فلا يجوز من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع الناس في مثل ذلك المقام العظيم الكبير ويقفهم على الرمضاء - في الحر الشديد - ثم يعلمهم بما هم عالموه ويخبرهم بما هم متيقنوه، وإذا لم يصح أن يكون مراده صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من هذه الأقسام علمنا أن مراده منها ما بقي منها مما هو واجب له على العباد، ويصح أن يوجبه لمن أراد، ولم يبق كما ترى غير قسمين وهما: الأولى، والسيد المطاع]؛ ولأن عمر قد صرح بذلك وعلم معنى التفضيل ومزية الاختصاص بما قدمنا ذكره، ولأن الخبر في الصحاح قد وردت منه قطعه تفيد معنى ولاية التصرف لأهل البيت باتباعهم ووجوب طاعتهم، وأنه لا نجاة إلا بالتمسك بهم، وعلي عليه السلام سيد أهل البيت ورأسهم مما جاء فيهم من ذكر صفوة، وأحتسب أنا قد قدمنا ذكره من صحيح أبي داود، ومن صحيح مسلم، ومن الجمع بين الصحيحين للحميدي والترمذي، وهو ما رواه عن زيد بن أرقم أنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: ((أما بعد أيها الناس، فإنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين أولها كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به -فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) فأوصى بكتاب الله دفعة وبأهل بيته ثلاثاً لتأكيد الحق وامتثال الأمر، وعلي رأس أهل البيت، والإجماع منعقد على أنه لا أمر لأحد منهم مع أمره، ثم قال ً: ((حبلان ممدودان لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) ثم نعى إليهم صلوات الله عليه وعلى آله وسلم نفسه، فكان الخبر وصية في آخر(1/400)


العمل لا يصح نسخها، ويجب امتثالها، فرحم الله من نظر بعين فكره، وتوسم بمقتضى دليل عقله وعقل ما يعقله العالمون من براهين ربه وشريف آثار سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فإذا قد تقررت لك قواعد الخبر وظهرت فلنذكر ما يؤيد ما ذهبنا إليه من كون علي عليه السلام أولى بالأمر من سائر الصحابة رضي الله عنهم لأنه بلغنا أن زيدية الناجية قد كان بعضهم يذهب مذهب المعتزلة وهو يعلم أو لا يعلم؛ والجهل لا يكون عذراً في الاعتقاد الفاسد، فأردنا تبيين منهاج الرشد، ونكشف وجه الحق، ?لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ?، ونذكر ما تيسر من الآثار على وجه الاختصار معراة عن التعليل وترتيب وجه الدليل، ونكل العاقل في ذلك إلى نفسه وما تيسر له من توفيق ربه، ومن الله سبحانه نستمد الهداية في البداية والنهاية.
ومن (الجمع بين الصحاح الستة) لرزين في الجزء الثالث ثلاثة في ثلثه الآخر في باب مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .
ومن صحيح أبي داود وهو كتاب (السنن)، وصحيح الترمذي بالإسناد إلى زيد بن أرقم أن رسول اللهً قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).(1/401)


ومن (صحيح مسلم) في الجزء الرابع منه من أجزاء ستة في آخر الكراس الثانية من أوله بإسناده إلى يزيد بن حباب قال: انطلقت أنا وحسين بن سيرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال حصين: لقد رأيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعت حديثه، وغزوت معه وصليت، لقد أوتيت يا زيد خيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا بن أخي والله لقد كبر سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تكلفونيه ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيباً بماءٍ يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: ((أما بعد.أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه النور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به - فحث على كتاب الله ورغب فيه - ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) فقال حصن: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.(1/402)

80 / 92
ع
En
A+
A-