[ إنكار النبوة ]
وهذه المطرفية المرتدة أنكرت نبوة المائة الألف نبي والأربعة والعشرين ألف نبي، وأنكروا جميع الكتب المنزلة، وناظرونا مراراً، وحاورونا أسفاراً، ولم يختلفوا في شيء من ذلك: أن النبوة فعل النبي، وأن الله تعالى ما خص أنبياءه بالنبوة ولا فضلهم بالرسالة، بل هم المختارون لذلك والعاملون له؛ وأن النبوة فعلهم. وقالوا لنا: نبا ينبو نبواً فهو نابي.
قالوا: ودلالة الفعل التصرف. قلنا: يا عدو الله، ما به من فعل الله شيء إلا ويمكن تصريفه يقول: نبت ينبت نباتاً فهو نابت، ومات يموت موتاً فهو ميت، وحيا يحيا حياةً فهو حي، إلى غير ذلك مما يطول شرحه، وقالوا: إن من أراد كان نبياً ولا يمنعه إلا تقصيره وعجزه.(1/36)
[ إنكار القرآن ]
وأما الكتب فقالوا: لايصح نزول العرض، والقرآن وسائر كلام الله تعالى عرض، وإنما القرآن صفة ضرورية لقلب الملك الأعلى لا يفارقه ويسمونه ميخائيل، وهذا الموجود بين أظهرنا ليس بقرآن وإنما هو حكاية القرآن، وهم لا يسمعون القرآن. قالوا: وإنما يسمعون القارئ، ولهم جهالات جمة، وأقوال متناقضة.
فإذا كانت اليهود كفاراً بما ذكرنا كان المطرفي زائداً على صفة اليهودية مائة ألف ضعف وأربعة وعشرين ألف ضعف الآخرين، لإنكار نبوة عيسى ومحمد وكتابيهما، والنصارى آمنت بجميع الكتب المنزلة والأنبياء المرسلة سوى محمدً وقالت: إن الله تعالى ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب -يعنون ذات الباري- وأقنوم الابن -يعنون الحياة- وأقنوم روح القدس -يعنون به القدرة- فقالوا بذات وصفتين: هما الذات والذات هما. قالوا: فهو واحد على الحقيقة وثلاثة على الحقيقة. فحكى الله عنهم التثليث بذلك بقوله: ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ…الآية?[المائدة:73]، وبقوله : ?وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ?[النساء:171] والمطرفية قالوا: إن للباري أربعين اسماً هي الله والله هي، وناظروا على هذا مراراً، ولا مخالفة بينهم في ذلك فيما علمناه، وقد حكاه الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام في شعره، فقال:
وفرقة من شرار شيعتنا .... ملوا مقامي واستبعدوا أمدي
من أجل أني أنكرت قولهم .... في مثل أسماء الواحد الصمد
أسماؤه يزعمونها هي هو .... قديمة كالقديم في الأبد
وهل يكون للأشياء ويلهمُ .... حسا يكافئ في المعنى وفي العدد
فشابهوا قول من يقول بأقنـ .... ـوم خلاف التوحيد متحد(1/37)
[ الضرر والمرض من الشيطان ]
فذكر مشابهة قولهم للنصارى، ثم قال عليه السلام في كتاب (العمدة، في الرد على المطرفية المرتدة ومن وافقوا من أهل الردة) هذه ترجمة الكتاب، فقال عليه السلام فيه: إن المطرفي ثلاثة عشر نصرانياً وثلث نصراني؛ لأنك إذا قسمت أربعين [اسماً] على ثلاثة ثلاثة كانت هذه الجملة، فقد زادوا على النصارى فيما به كفرت النصارى.
وأما المجوس فإنما كفروا حيث أضافوا النفع والضر إلى الله تعالى [وأشركوا معه الشيطان فقالوا: النفع من الباري تعالى] وهو عندهم (يزدان)، والضر من (أهرمن) -وهو عندهم الشيطان- وكذلك قالت المطرفيه: إن الضرر والمرض من الشيطان -ويحتجون بقول أيوب ?أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ?[ص:41].
قلنا: إنما أصابه الشيطان بالوسوسة؛ فأنكروا ذلك وزادوا على المجوس بأن نفوا المحبوب عن الله وقالوا: هو بإحالات الأجسام. والثنوية أضافوا النفع والضرر إلى النور والظلمة، وهما مما ليس بحي ولا قادر؛ فلا يصح أن يضاف إليهما الضر والنفع، والمطرفية أضافت الضرر والنفع إلى جميع الجمادات كلها فزادت على المجوس أضعافاً مضاعفة وعلى الثنوية .
وأما الوثنية: فاعتقدوا في الأصنام أنها تضر وتنفع من دون الله، وكان في كل قبيلة صنم كما كان يعوق في همدان، ويغوث في مذحج، وهبل في قريش، وذو الخلصة في خثعم، وذو الكفين في دوس، واللات والعزى في ثقيف وهذيل، إلى غير ذلك مما يطول.(1/38)
[ الجمادات تضر وتنفع من دون الله وتأثير الطبائع ]
وهذه المطرفية تعتقد في الجمادات كلها وهي أعداد لا تنحصر أنها تضر وتنفع من دون الله فزادت على اعتقاد الوثنية أضعافاً كثيرة لا تنحصر، فهم أكفر الكفرة، وأفجر الفجرة، وشر أهل الفترة المرهقة القترة، ولقد نفوا عن الله بشهادتنا عليهم وشهادة من تقدمنا من آبائنا الطاهرين، جميع أفعاله من خلق ورزق، وموت، وحياة، وزيادة، ونقصان، وأضافوا ذلك إلى إحالة الأجسام، وتأثيرات الطبائع، ونفوا ذلك عن الحكيم الصانع، وقد ذكر جدنا القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كتاب (القتل والقتال وما يحل به سفك الدماء والمال) وهو كثير، وإنما نذكر منه نكتة. قال عليه السلام بعد كلام طويل: (يحل القتل والسبا وأخذ المال بأن ينكر من حكم الله تعالى حكمة، أو يضيف من أفعال عباد الله إلى الله، أو ينفي شيئاً من أفعال الله عن الله) وكل هذه الوجوه قد فعلته الفرقة الغوية، المرتدة الشقية، المسماة بالمطرفية؛ لأنهم نفوا عن الله تعالى أفعاله، وأضافوا أفعال العباد إلى الله؛ لأن مذهبهم أن فعل العبد لا يعدوه، ولا يوجد في غيره؛ فقد نفوا أفعال الله عن الله، وأنكروا حكماً لا ينحصر، وأضافوا إلى الله تعالى من أفعال العباد والقبائح ما لا ينحصر عدده في رسالتنا هذه، وقد أباح القاسم عليه السلام القتل والسبا، وأخذ المال بإنكار حكمة واحدة، أو إضافة فعل واحد من فعل الغير إلى الله. فاعلم ذلك وتأمله موفقاً إن شاء الله تعالى.(1/39)
[ نفي أن يكون لله نعمة ومنِّة ]
ومن ذلك أنهم نفوا أن يكون لله تعالى نعمة ومنة على أحد من عباده لا مؤمن ولا كافر؛ لأنهم قالوا: المؤمن أخذ ما أخذ من الرزق جزاءً على عمله، والكافر والفاسق مغتصبان لما في أيديهما، وهذا مخالف لنصوص القرآن؛ لأن القرآن جله امتنان على العباد، كسورة الرحمن وغيرها ?فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ? إلى آخر السورة . والآلاء هي النعم، وقد ذكرنا إنهم ردوا من صريح كتاب الله تعالى، والآي المحكم الظاهر أربعمائة آية وسبعاً وثلاثين آية لا تحتمل آية منها التأويل، لو أنهم ردوا آية واحدة، أو ظاهراً واحداً لكفروا بإجماع الأمة؛ فكيف بمجموعها، وقد ذكرنا الآي وعيناها في كتاب غير هذا.(1/40)