علينا ما ندري ما الثقلان؟ حتى قام رجل من المهاجرين وقال: بأبي وأمي أنت - يا رسول الله - ما الثقلان؟ قال: الأكبر منهما كتاب الله سبب، طرف بيد الله تعالى وطرف بأيديكم، فتمسكوا به ولا تلووا، ولا تضلوا، والأصغر منهما عترتي، من استقبل قبلتي، وأجاب دعوتي، فلا تقتلوهم، ولا تقهروهم، ولا تقصروا عنهم، فإني قد سألت لهما اللطيف الخبير فأعطاني، ناصرهما لي ناصر، وخاذلهما لي خاذل، ووليهما لي ولي، وعدوهما لي عدو، ألا فإنها لم تهلك أمة قبلكم حتى تدين بأهوائها وتظاهر على نبوتها وتقتل من قام بالقسط منها، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها، وقال: من كنت وليه فهذا وليه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه)) قالها ثلاثاً آخر الخطبة.
وهذا كله خبر في هذا الباب، لأن تفصيله قد ورد في الصحاح ما يختص بأهل البيت مفرداً، وما يختص بحديث ولاية علي عليه السلام وحده أيضاً، وسبب ذلك أن الشرح لما طال روى كل إنسان ما حفظ، وبعض الروايات أتم من بعض.
وفيه بإسناده مثله، إلا أنه ذكر فضل صيام يوم الثامن عشر، وقفه على أبي هريرة: ((من صامه كتب له صيام ستين شهرا)) والتقرير إذا وقف على الصحابي حمل على التوقف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا دليل على عظم خطر هذا اليوم بحسن موقعه في الإسلام بدلالة اتباع الكتاب والعترة وتقرر ولاية أمير المؤمنين عليه السلام على الأمة، وفيه زيادة قول عمر: بخ! بخ! يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة قال: فأنزل الله تعالى : ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ?[المائدة:3].(1/393)
وفيه مثله، بإسناده رفعه إلى جابر بن عبد الله، بزيادة في أوله: إن الناس لما نزلوا بغدير خم تنحوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر علياً فجمعهم، فلما اجتمعوا قام فيهم وهو متوسد يد علي عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أيها الناس، إني قد كرهت تخلفكم عني حتى خيل إلي أنه ليس شجرة أبغض إليكم من شجرة تليني ثم قال: لكن علي بن أبي طالب أنزله الله مني بمنزلتي منه فرضي الله عنه كما أنا عنه راضٍ، وإنه لا يختار على فرقي ومحبتي شيئاً))، ثم رفع يده وذكر الخبر، قال: فابتدر الناس إلى رسول اللهً يبكون ويتضرعون، ويقولون: يا رسول الله، ما جنبنا عنك إلا كراهة أن نثقل عليك، فنعوذ بالله من سخط رسول الله، فرضي رسول اللهً عنهم.
ومثله إلى اثني عشر رجلاً من أصحاب النبيً ثم سرد الخبر، ورفع الحديث بإسناده مفرعاً إلى مائة من أصحاب رسول اللهً منهم العشرة، ومتن الحديث فيها ومعناه واحد، وفيها زيادات نافعة في أول الحديث وآخره، وسلك فيه اثنتي عشرة طريقاً بعضها يؤدي إلى غير ما أدى إليه صاحبه من أسماء الرجال المتصلين بالنبيً .
وقد ذكر محمد بن جرير الطبري صاحب التأريخ خبر يوم الغدير وطرقه من خمسة وسبعين طريقاً، وأفرد له كتاباً سماه (كتاب الولاية).
وذكر أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة خبر يوم الغدير، وأفرد له كتاباً، وطرقه من مائة وخمس طرق، ولا شك في بلوغه حدَّ التواتر وحصول العلم به ولم نعلم خلافاً لمن يعتدُّ به من الأمة، وهم فيه بين محتج به ومتأول له إلا من يرتكب طريقة البهت ومكابرة العيان، ولم نذكر مما يتعلق برواية السبعة في هذا الحديث كلمة واحدة؛ لأنا أردنا إلزام الحجة وكشف الحال، وإلا فروايتهم فوق ما رويناه عن غيرهم؛ لأنهم أهل هذا الشأن وهم أهل الجري في هذا الميدان، فإذا فرغنا من الكلام في متن الخبر، فلنتكلم في بيان معنى لفظة مولى في اللغة العربية.(1/394)
اعلم أن أكثر ما قيل أو وجد في معنى لفظة (مولى) أنها تحتمل عشرة معاني:
لها: الأولى وهو الأصل والعماد الذي ترجع إليه المعاني في باقي الأقسام، ثم اعلم أن أهل اللغة ومصنفي العربية قد نصُّوا على أن لفظة (مولى) تفيد الأولى، وفسروا ذلك في كتبهم من كتاب الله تعالى ومن أشعار العرب.
فأما من الكتاب العزيز فإن أبا عبيدة معمر بن المثنى وهو مقدم في علم العربية غير مطعون عليه في معرفتها ذكر في كتابه المتضمن (تفسير غريب القرآن) المعروف بالمجاز، في سورة الحديد في تفسير قوله تعالى: ?فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ?[الحديد:15] يريد جل اسمه: هي أولى بكم على ما جاء في التفسير، واستشهد بقول لبيد:
ففدت كلا الفرخين تحسب أنه .... مولى المخافة خلفها وأمامها
معناه أولى بالمخافة.[يريد أن هذه الظبية تحيرت فلم تدرِ أخلفها أولى بالمخافة أم أمامها].
ويقول الأخطل في عبد الملك بن مروان:
فما وجدت فيها قريش لأمرها .... أعف وأوفى من أبيك وأمجدا
وأورى بزنديه ولو كان غيره .... غداة اختلاف الناس أكدىوأصلدا
فأصبحت مولاها من الناس كلهم .... وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
فخاطبه بلفظ مولى وهو [عند نفسه] خليفة مطاع الأمر من حيث اختص بالمعنى الذي احتمله، وليس أبو عبيدة متهماً بالتقصير في علم اللغة ولا مظنوناً به الميل إلى أمير المؤمنين عليه السلام [بل هو معدود من جملة الخوارج وقد شاركه في مثل ذلك التفسير ابن قتيبة وهو أيضاً لاميل له إلى أمير المؤمنين عليه السلام] إلا أنه لو علم أن الحق في غير هذا المعنى لقاله.
وقال الفراء في كتابه (كتاب معاني القرآن) في ذكر تفسير هذه الآية: إن الولي والمولى في لغة العرب واحد.(1/395)
وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في كتابه المعروف ([بتفسير] المشكل في القرآن) في ذكر أقسام المولى: إن المولى الولي، والمولى الأولى بالشيء، واستشهد على ذلك بالآية المتقدم ذكرها وببيت لبيد أيضاً، وأنشد لغير لبيد:
كانوا موالي حق يطلبون به .... فأدركوه وما ملوا ولا لغبوا
وقد روي أن في قراءة ابن مسعود: ?إنما مولاكم الله ورسوله? مكان قوله: ?إنما وليكم الله ورسوله?، وفي الحديث: ((أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل))، والمعلوم من ذلك أن المراد بمولاها وليها والذي هو أولى الناس بها، والأخطل هو أحد شعراء العرب وممن لا يطعن عليه في معرفة [اللغة] ولا ميل له إلى مذهب الإسلام، بل هو من المبرزين في علم اللغة.
وقد حكي عن أبي العباس المبرد أنه قال: الولي هو الأحق والأولى ومثله المولى، فيجعل الثلاث عبارات لمعنى واحد، ومن له أدنى أنس بالعربية وكلام أهلها لا يخفى عليه ذلك.
والثاني من أقسام المولى : هو مالك الرق قال الله تعالى: ?ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ?، ?وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ?[النحل:75، 76] يريد مالكه، والأمر في ذلك أشهر من أن يحتاج إلى استشهاد.
والثالث: المعْتِق.
والرابع : المعْتَق.
والخامس: ابن العم، قال الله تعالى: ?وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي?[مريم:5] يعني بني العم، ومنه قول الشاعر:
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا .... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
والسادس: الناصر. قال الله تعالى: ?وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ?[التحريم:4] يريد: ناصره، وقال تعالى: ?ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم? [محمد:11] يريد: لا ناصر لهم.
والسابع: المتولي ليضمن الجريرة وتحويز الميراث .
والثامن: الحليف. قال الشاعر:
موالي حلف لا موالي قرابة ……. .(1/396)
والتاسع: الجار. قال الشاعر: مولى اليمين ومولى الجار والنسب
والعاشر : الإمام السيد المطاع.
وهذه الأقسام التسعة بعد الأولى إذا تُؤمل المعنى فيها وُجِدَ راجعاً إلى معنى الأولى ومأخوذ منه؛ لأن مالك الرق لما كان أولى بتدبير عبده من غيره كان مولاه دون غيره، والمعْتِق لما كان أولى بميراث المعتق من غيره كان مولاه كذلك، والمعتق لما كان أولى بمعتقه في تحمل جريرته وألصق به ممن أعتقه غيره كان مولاه أيضاً كذلك، وابن العم لما كان أولى بالميراث ممن بعده عن نسبه وأولى بنصرة ابن عمه من الأجنبي كان مولاه لأجل ذلك، والناصر لما اختصَّ بالنصرة فصار بها أولى كان من أجل ذلك مولى، والمتولي لتضمن الجريرة لما ألزم نفسه ما يلزم المعتق كان بذلك أولى ممن لا يقبل الولاء فصار به أولى بميراثه فكان بذلك مولى، والحليف لاحق في معناه بالمتولي فلهذا السبب كان مولى، والجار لما كان أولى بنصرة جاره ممن بعد عن داره وأولى بالشفعة في عقاره فلذلك صار مولى، والإمام المطاع لما كان له من طاعة الرعية وتدبيرهم وملك التصرف عليهم ما يماثل الواجب بملك الرق كان بذلك مولى.(1/397)