قلنا: لا يجوز ذلك. ألا ترى أن مخبراً لو أخبرنا أن فلاناً تلقط الرمح من الأرض وهو راكب لعلمنا أنه تلقطه في حال ركوبه، ولو أخبرنا أن المراد بقوله وهو راكب أن الركوب من شأنه أو من عادته لكان في خبره الأول عندنا من الكاذبين وفي تأويله من الجاهلين، وكذلك لو قال: فلان يؤثر على نفسه وهو فقير أفاد ذلك الإيثار في حال فقره دون أن يكون المراد بذلك فقره في المستقبل.
ومنها أن المعطوف يقتضي في اللغة العربية التي نزل القرآن الكريم أعلاها وهو في الحقيقة مولاها، يقتضي كونه غير المعطوف عليه بالاتفاق بين أهل اللغة أو بعضه للتفخيم عندنا على خلاف في هذا الآخر، مع الإطباق على الأول على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الفقه، فإذا لم يجز عطف قوله سبحانه: )?والَّذينَ آمَنُوا?( على جميع من ارتد الضمير في قوله : ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ?، وحمل على الغير المتفق عليه، أو البعض المختلف فيه، والغير أو البعض المختلف فيه، والبعض والغير لا يكون إلا أمير المؤمنين عليه السلام.
فإن قيل: هذا في قصة عبادة بن الصامت، والمراد به جماعة المسلمين.
قلنا: فإذا بطل بما بيَّنا أنه لا يجوز عطف الجمع عليه لاستحالة عطف الشيء على نفسه لغة، وكان المراد بعضهم كما قال تعالى: ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ?[الأحزاب: 7]، فالمعطوف ها هنا بعض من تقدم، وهو علي عليه السلام وله أمثال كثيرة أو الغير كما هو موضوع في الأصل، كان المراد بذلك أمير المؤمنين عليه السلام بالاتفاق.(1/383)


ومما يزيد ذلك وضوحاً أن الآية أفادت مُخَاطِبًا هو الله سبحانه، ومُخاَطَباً هم المؤمنون، وولياً هو الله سبحانه ورسوله وأمير المؤمنين، ألا ترى أن قوله تعالى: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ? يعلم بظاهره أن المراد بذلك هم المؤمنون، وقد صرح بذكر رسوله مع ذكره تعالى، فالمراد بلفظ الجمع هاهنا أمير المؤمنين عليه السلام وورود ذكره بلفظ الجمع تفخيماً لشأنه وتعظيماً لحاله، وقد قال تعالى: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[الحجر: 9] قد ذكر لفظ الجمع هاهنا في خمسة مواضع، والمراد الحكيم سبحانه وحده ومثله كثير في اللغة العربية.
ومن (الجمع بين الصحاح) لرزين العبدري في تفسير سورة المائدة، من (صحيح النسائي) عن ابن سلام قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: إن قومنا حادونا لما صدقنا الله ورسوله وأقسموا أن لا يكلمونا، فأنزل الله تعالى: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ?[المائدة:55]، ثم أذن بلال لصلاة الظهر، فقام الناس يصلّون فمن بين ساجد وراكع، وإذا بسائل فسأل فأعطاه علي خاتمه وهو راكع، فأخبر السائل رسول اللهً فقرأ علينا رسول اللهً الآية، فهذا تنبيه كما ترى بقراءة رسول اللهً الآية عقيب حكايتهم له إعطاء علي عليه السلام السائل بأن علياً عليه السلام هو الولي للمؤمنين وهذه قرينة حال انضافت إليها قرينة مقال.
ومن (مناقب ابن المغازلي) بإسناده في تفسير قوله تعالى: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ? ما رفعناه إليه، فرفعه بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: نزلت في علي عليه السلام.(1/384)


وبالإسناد في طريق أخرى من كتابه، رفعه إلى محمد بن الحسن، عن أبيه، عن جده، في قوله تعالى: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا?، فقال: الذين آمنوا علي بن أبي طالب.
وفي كتابه بإسناده، رفعه إلى أبي عيسى، رفعه إلى ابن عباس - رضي الله عنه - قال: مرَّ سائل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي يده خاتم قال: ((من أعطاك هذا الخاتم))؟ قال: ذلك الراكع - وكان علي يصلِّي - فقال النبي ً: ((الحمد لله الذي جعلها فيّ وفي أهل بيتي: إنما وليكم الله ورسوله وقرأ الآية)) فهذا كما ترى تصريح عما تقدم في الأول في معنى الإشارة، وكان نقش خاتمه الذي تصدق: سبحان من فخري بأني له عبد.
وفي كتابه رفعه بإسناده، إلى علي وابن عباس وأبي مريم قالا: دخلنا على عبدالله بن عطاء، قال أبو مريم: حدِّث علياًّ بالحديث الذي حدّثتني عن أبي جعفر، قال: كنت عند أبي جعفر حالة إذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام قلت: جعلني الله فداك، هذا ابن الذي عنده علم من الكتاب؟ قال: لا، ولكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله عز وجل: ?وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ?[الرعد:43]، ?أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ?[هود:17]، ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ...الآية?[المائدة:55].
وفي (تفسير الثعلبي) رفعه إلى ابن أبي حكيم عتبة، والسدي، وغالب بن عبدالله: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ?[المائدة:55] علي بن أبي طالب عليه السلام لأنه مرَّ به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه.(1/385)


وبإسناده رفعه إلى عبد الله بن عباس قال: بينا عبد الله بن عباس رضي الله عنه جالس على شفير زمزم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل رجل معتمٌّ بعمامة فجعل ابن عباس رضي الله عنه لا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا وقال الرجل: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له ابن عباس: سألتك بالله، من أنت؟ قال: فكشف عن وجهه، وقال: يا أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري، أبو ذر الغفاري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين وإلا فصمَّتا، ورأيته بهاتين وإلافعميتا، يقول: ((علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله)) أما أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً من الأيام صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل إلى السماء، وقال: اللّهمَّ، اشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً، وكان علي راكعاً فأومأ بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: ((اللهمّ، إن موسى سألك فقال: ?رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي?[طه25-32]، فأنزلت عليه: ?سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا?[القصص:35]، اللهم وأنا محمد نبيك ووصيك وصفيك، اللهمَّ، فاشرح صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي، علياًّ اشدد به ظهري)) قال أبو ذر: فما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة حتى نزل جبريل عليه السلام من عند الله تعالى، فقال: يا محمد، اقرأ.(1/386)


فقال: وما أقرأ؟ قال اقرأ: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ?[المائدة:55].
فهذه نبذة من الآثار المتفق عليها جعلتها تذكرة للمنتهي، وتبصرة للمبتدي، وتنكبنا رواية الشيعة على اتساع نطاقها، وثبوت ساقها، ليعلم المستبصر أن دليل الحق واضح المنهاج، مضيء السراج، فصح الموضع الأول.
وأما الموضع الثاني وهو أن ذلك يفيد الإمامة فلأن السابق إلى الأفهام من معنى لفظ: ولي المالك للتصرف، كما يقال: هذا ولي المرأة وولي اليتيم الذي يملك التصرف عليهما، فلما كان الله تعالى مالكاً للتصرف على عباده وكذلك الرسولً وجب ذلك لعلي عليه السلام بمقتضى هذه الآية، فثبتت بذلك إمامته عليه السلام، وإذ قد فرغنا بما يتعلق بمعنى الآية فلنذكر الخبر وما يتعلق بمعناه.
ومن (مسند ابن حنبل) رفعه إلى البراء بن عازب قال: كنا مع رسول اللهً في سفر فنزلنا بغدير خم، ونودي فينا الصلاة جامعة، وكسح لرسول اللهً فقال لهم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه)) فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة.(1/387)

77 / 92
ع
En
A+
A-