وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لزيد بن حارثة: ((يا زيد، لقد زادك اسمك إليّ حبا))، في أحاديث كثيرة سليمات المتون، صحيحات الأسانيد، ولو أردنا استقصاءها خرجنا إلى الإسهاب، صحبه الخيار، وتابعه العلماء، وعقدت البيعة له في الأمصار، وكانت دعوته من الكوفة. وسبب خروجه أنه دخل على هشام بن عبد الملك وفي مجلسه يهودي يسب رسول الله ً، فقال له زيد: أولى لك يا عدو الله أما والله لو تمكنت منك لأختطفنّ روحك. فقال له هشام: مه!! يا زيد لا تؤذي جليسنا. فخرج عليه السلام وهو يقول: من استشعر حب البقاء استدام الذل إلى الفناء، فوصل إلى الكوفة وكان منه الدعاء كما قدمنا، وخرج ليلة الأربعاء لسبع بقين من المحرم أو تسع -الشك من قبلي- قبل ميعاده مخافة أن يرهقه الطلب وصاح بشعار رسول اللهً ورفعت [الهرادي فيها النيران]، ودارت رحى حربه عليه السلام على خمسمائة مقاتل وسأل عن الناس لأن ديوانه انعقد من أهل الكوفة على خمسة عشر ألفاً قيل: إنهم في الجامع، وكان صائح بني أمية قد انتشر في البلد بين أقطارها: برئت الذمة من كل محتلم لا يصل الجامع فانفض الناس إخلاداً إلى الدنيا، وميلاً إلى الهوى، ورغبة فيما يفنى، وزهداً فيما يبقى، فقال: لا يسعنا عند الله خذلان أصحابنا، سيروا على اسم الله فسار بهم فهزم الجموع بينه وبينهم إلى أن وصل باب الغيل وأمر أصحابه بإدخال عذب الرايات من أفواه العقود، وقال لهم نصر بن خزيمة: يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذل إلى العزِّ فلم يفعلوا فأذلهم الله سبحانه، وجاءت جنود الشام من تلقاء الحيرة، وحمل عليهم عليه السلام كأنه الليث المغضب فَقَتل منهم أكثر من ألفي قتيل بين الحيرة والكوفة، وقاتلهم ثلاثة أيام كل يوم يروحون من حربه أسوأ حالاً من اليوم الأول، وهو في خمسمائة وهم في اثني عشر ألفاً، فأصيب في آخر أيامه في جبينه الأيسر بنشابة، وحمل إلى دور أرحب وشاكر، فدعي له طبيب فنزعها فمات منها، وقد وجب على الله(1/373)


أجره.
وروينا بإسناد طرقه إلى النبيً حذيفة بن اليمان، قال: نظر رسول اللهً إلى زيد بن حارثة فقال: ((ادْنُ مني - يا زيد - زادك اسمك عندي حباًّ فأنت سمي الحبيب من أهل بيتي)).
وبالإسناد إلى أنس بن مالك قال: قال رسول اللهً: ((يقتل من ولدي رجل يدعى بزيد بموضع يعرف بالكناسة يدعو إلى الحق يتبعه كل مؤمن ومؤمنة)).
وبالإسناد عن حبة العرني قال: كنت أنا والأصبغ بن نباته بالكناسة في موضع الجزارين والحناطين مع علي بن أبي طالب عليه السلام وهي يومئذ صحراء فما زال يلتفت إلى ذلك الموضع ويبكي بكاءً شديداً، ويقول: بأبي بأبي. فقال له الأصبغ: يا أمير المؤمنين لقد بكيت والتفت حتى بكت قلوبنا وأعيننا والتفت فلم أرَ أحداً. فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يولد لي مولود لم يولد أبوه بعد، يلقى الله غاضباً وراضياً له على الحق، حقاً حقاً، على دين جبريل وميكائيل صلّى الله عليهم وأنه يمثل به في هذا الموضع مثالاً ما مثل بأحد قبله ولا يمثل بأحد بعده صلوات الله على روحه وعلى الأرواح التي توفى معه.
وبالإسناد إلى أبي داود المديني عن علي بن الحسين قال: يخرج مني بظهر [الكوفة] رجل يقال له: زيد [في أبهة سلطان، والأبهة الملك] لم يسبقه الأولون ولم يدركه الآخرون إلا من عمل بمثل عمله، يخرج يوم القيامة هو وأصحابه معهم الطوامير، ثم يتخطون أعناق الخلائق قال: فتلقَّاهم الملائكة، فيقولون: هؤلاء خلف الخلف، ودعاة الحق، ويستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: ((قد عملتم بما أمرتم ادخلوا الجنة بغير حساب)).
وبالإسناد عن زاذان عن أمير المؤمنين قال: الشهيد من ذريتي القائم بالحق من ولدي المصلوب بكناسة كوفان، إمام المجاهدين، قائد الغر المحجلين، يأتي يوم القيامة هو وأصحابه تتلقاهم الملائكة المقربون ينادونهم ادخلوا الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.(1/374)


فإذا قد تقررت هذه المقدمة في ذكر زيد عليه السلام فالزيدية من اعتزى إليه وسلك منهاجه، ومنهم الصالحية ينتسبون إلى الحسن بن الصالح بن حي، وبترية، وجارودية، وتفصيل شرحهم يطول، وإنما هم أئمة الهدى عليهم السلام وأتباعهم من علماء الإسلام واختصوا باسم الزيدية لانتسابهم في الاعتقاد إلى زيد بن علي عليهما السلام.(1/375)


[ مبادئ الزيدية ]
وأما الفصل الثاني فيما هو الظاهر من مذهبهم الآن.
فاعلم أن الظاهر من مذهبهم تقديم علي عليه السلام في الإمامة على أبي بكر وعمروعثمان، واعتقادهم النص الاستدلالي دون الضروري خلافاً للإمامية، وهم لا يسبون الصحابة ولا يفسقونهم وإنما يخطئونهم في ترك الاستدلال والإخلال بالنظر في النصوص الموجبة إمامة علي عليه السلام ويعيبون عليهم،ويعيبون أفعالهم من دون كلام قبيح، ولا يمكن أحد أن يدعي على أحد من أئمة الهدى دعوى صحيحة بأنه سب أو آذى، وهذا منهاج علي عليه السلام فإنه كان في خطبته وأثناء محاوراته يشكو من القوم تقدمهم وأنه أولى بالأمر منهم، ويظهر أنه أغضى صبراً واحتساباً ونظراً للدين مخافة انشقاق العصا مع تربص أهل النفاق وقوة أهل الردة وقربهم من المدينة، وكانت الردة في سليم، وتميم، وأسد، وحنيفة، وعمان، وغطفان، والبحرين، ومهرة، وحضرموت في كندة وألفافها، والجند، فلم يرَ إلا ترك الشقاق نظراً للدين، وحسن قصد القوم في تحري قوة الإسلام، وتعظيم حاله والرمي من وراء حوزته، وبذل الوسع في تقوية قواعده، ولم يقع الخلل إلا فيما يتعلق بحقه عليه السلام فصبر واحتسب نظراً لصلاح الأمة وتحرياً لقوة الإسلام، ولم يظهر منه سبّ ولا ذمُّ للصحابة في خاصة ولا عامة ولا رضا ولا غضب، ونقول في معصيتهم إنها صحيحة، ولا نقطع بكونها كبيرة ولا يتضح لنا كونها صغيرة، فنردُّ أمرها إلى الله إلا أنها لا تقطع بكبرها، والكبيرة توجب الفسق، والفسق لا يكون إلا بالنصِّ ولا يثبت بالقياس؛ لأن مقادير الثواب والعقاب لا طريق لنا إلى العلم بها.(1/376)


وأما أناَّ لا نقطع بصغرها فلأن الصغيرة ثواب صاحبها في كل وقت أكثر مما يستحق من العقاب في كل وقت، وهذا لا طريق لنا إليه، وقد قدموا على رب كريم فإن عفا عنهم فلحميد سوابقهم وعظم إحسانهم ولما تحملوا من الأثقال في معاداة الأسود والأحمر في نصرة الدين، وإن عاقبهم فما ربك بظلاَّم للعبيد وهو على خلقه غير متهم ولا مستخان في حكمه إن حكم .
وأما الفصل الثالث: مذهبهم في الإمامة في وقت الصحابة قد تقدم، وأن الإمام عندهم بلا فصل علي بن أبي طالب عليه السلام.(1/377)

75 / 92
ع
En
A+
A-