المسألة الثالثة [ الإحالة والتوليد ]
قالوا أيدهم الله تعالى: إذا قال بعض أهل الإحالة: إنها عنده بمعنى التوليد عند القائل به، فمعنى إحالة الجسم عنده جسم آخر، هو إيجابه لغرض من الأغراض في ذلك الجسم المستحيل، كالنار تحرق الخشب إلى آخر ما مثل به.
الجواب عن ذلك: إن التوليد جنس قائم بنفسه دل عليه الدليل، وما ذهب صاحب الإحالة لم يدل عليه دليل، فإن طولب بذلك لم يجد إليه سبيلاً، وتمثيله فرع على صحة المثل فيه وهو لا يصح إلا بتأويل، فإن قال: ما دليلكم على بطلان توليد الأجسام للأعراض؟
قلنا: لا يلزمنا لأنك تروم إثبات مذهب فدل على صحته.
فإن قالوا: أثبتوا آماداً للظلال؟.(1/353)


قلنا: لو أن الجسم ولد العرض، فلا يخلو إما أن يولد الكل أو البعض، باطل أن يولد البعض، لفقد الاختصاص، وهو يحمل ومعها على سواء ولا يستحيل حلولها فيه وقيامها به، فإما يوجب الكل وهو مستحيل، وإما لا يوجب وهو مستحيل أيضاً على أصل قوله، وإما يوجب البعض فلا تخصص في الموجبات خاصة، ولأنه لا يكون جسماً إلا بالأعراض فكيف يكون علة فيها فيؤدي إلى التوقف والدور، ولأن في نفوسها قائمة في الدلالة على الباري سبحانه قيام الجسم لحصولها مع جواز ألا يحصل خلاف الموجب ويحصل ضدها بدلاً عنها باختيار الفاعل، والموجب واحد عند الخصم، فكيف يعقل ما ذكر، فأما استقراره في النار وما شاكلها فلاشك أن فيها الاعتماد من فعل الباري واليبوسة مضاد الرطوبة، والحرارة تضاد البرودة، فما طرأ على ضده أبطله، ولو أضاف ذلك إلى النار فما هي النار في نفسها، فإنما هي جسم يختص بحرارة ويبوسة واعتماد علوي من فعل الله تعالى؛ فالحاصل لا يكون موجباً ولا معللاً لأناّ نعتمد في الريح اعتماداً سفلياً بآلة، ولا يكون الريح معلولاً، ولو أردنا علوياً أيضا لأمكن؛ وإنما النار تجاوز وكذلك [الماء] والفاعل الله تعالى، ولهذا فإن النار لا تحرق كل شيء، والماء لا يبل كل شيء، وهي بحال محتملة لو كان موجباً لاطرد كما في نظائره، والحال سالمة والمانع مرتفع لولا اختيار الحكم سبحانه لبردت النار وسخنت، وأحرق الماء وسخن، وفرق وجمع، وفصل [ووصل]، إذ الجسم هو العلة فيلزم وقوع المعلول، وإلا أدى إلى أن يكون فرقاً بين وجود العلة وعدمها وذلك باطل، فما أدى إليه يكون باطلاً، وإنما هي أقوات مقدرة لنفع العباد وضرهم فرغَّبهم بالنفع، ورهبهم بالضر، حكمة منه تعالى ولطفاً، والعلل التي يتوهمها المطرفي وأخوه الطبعي واحدة في المسار، والمعلول يختلف فيطلع الفرع ويهبط العرق وتفترق الأغصان وتدلى الثمار، والمعلول لا يختلف لأنه موجب ولامانع يعقل لأنها الجهات والأوقات معها على سواء،(1/354)


ولأنها تقع على قدر المصالح لا على قدر الأجسام، وليس كذلك الموجب لأن الموجبات تكثر بكثرة العلل عند من بينها أو يقوم له الدليل عليها، ولو كانت الحوادث معلولة عن الأجسام لكانت لا تنتهي إلى غاية لوجود العلة، فإن أوجبت وإلا خرجت عن بابها، فكان النامي ينمي أبداً والتبع يقع في الحال الأولى، ولذلك اللوز لا يكون الأخضر أولى بالابتداء دون الأصفر والأحمر والأبيض؛ لأنا نقول اختلافه لاختيار الباري الفاعل الحكيم سبحانه وليس كذلك الموجب لأنه اختيار له، وكذلك الكلام في الطعوم كان الحلو بأن يكون أولى من الحامض أو يستويا في الولا فما المخصص؟ فإن قيل: اختيار الباري فهو المراد، ومع الموجب لا يصح ذلك، وكذلك في الألوان والروائح وجميع الأعراض كلها، وأما المخترع فهو اسم لما فعله الباري ابتداء وأفعاله تعالى مخترعة.
وإنما قلنا بالتوليد لاستحالة الفعل منا لذلك وليس كذلك الباري سبحانه؛ لأنه لا يستحيل عليه شيء، فإن قدم ما يجري مجرى المسبب فلمصلحة تعلق لإيجاده لا لإرادة إيجاد الفعل، فوجوده منه تعالى يصح بدونه وكان إيجاده لأجل ذلك والحال هذه يكون عبثاً، كما لو تأتى لنا الفعل بدون الاعتماد لما اعتمدنا في الأجسام.
وقوله: هل يفعله وقت حدوثه أو قبل أو بعد، لا يلزم لا يفعله الموجب في حكم من قد فعل الموجب، لكون الميت في حكم الموجود إنما يصح تقديره في أفعالنا لاستحالة وجودها إلا كذلك بخلاف فعل الباري تعالى .
وإن رأينا ما يشبه فعلنا من فعله تعالى فالحال فيه مختلف؛ لأنه يوجد الحركات شيئاً بعد شيء ويعلمها مفصلة، وإلا كان جاهلاً عابثاً تعالى عن ذلك.
وقد قدمنا الدلالة على بطلان إيجاب الجسم لشيء من الأعراض.(1/355)


وأما قوله تعالى: ?وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ?[الكهف:18] وأن ذلك لئلا تأكل الأرض جسومهم فلا يستقيم؛ لأن أكل الأرض للحومهم لو كان موجبا على الأرض فحصل عند وضع الجنوب عليها بلا فصل؛ لأن ذلك المعقول من الموجب عند من بينه.
وأما التقلب فلا يكون عبثاً لأن تعبد الملائكة عليهم السلام أو من فعله تعالى لتعتبر الملائكة والجن، من شاهد ذلك، ومن علم بأنه يفعل ما يشاء أن هذه النومة خارجة عن العبادة فلها حقها من الوعظ والعلم بعظم الجلال الذي لا يمتنع عليه شيء.
وقد ثبت أن النائم إذا قُلِبَ استيقظ في مجرى العادة، فجرى التقليب على كل جنب ولا نقصه ليقع الاعتبار، أو لمصلحة تعلقت في تكليف من يؤمر به، ولأن الكلب لم يقلب في الظاهر ولم يعتبر؛ لأن الكل لم يفصل بين نومهم ونومه، وبعثهم وبعثه.
وأما قول بعض الأئمة في ذلك وبعض علماء الأمة فالواجب الرجوع إلى الأدلة والحقائق، وما تقوله الأئمة عليهم السلام والعلماء يتأول على ما يصح؛ إذ أمورهم تحمل على الصحة.(1/356)


المسألة الرابعة [ في الإحداث والخلق ]
إن قال قائل: الحيوان والنبات كله أجزاء، وكلها قد كانت محدثة، ثم ألفها تعالى وصورها، قال: لأنه لو كان محدث أجزائها حالة مشاهدتها متصورة لساوت السهول الجبال أو قاربتها .
وقوله تعالى: ?مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ?[طه:55]، ?إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِب?[الصافات:11] و?إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ?، و?أنْشِأنِاكُمْ مِنَ الأرْضِ?.
وقال قائل آخر نقيض هذا: وهو أن كله أحدثه الله تعالى من العدم إلى الوجود حال مشاهدته، واحتج بظواهر الآيات لأنه تعالى أضاف خلقها [مع الله]، نحو قوله تعالى: ?خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا?[الفرقان:59] وحمل الخلق في ذلك على الإحداث في الحال.
وقال قائل ثالث: إنه يقدر على الجميع ولا مانع منه، فيجوز إحداث أجزاء في الحال وإضافة أجزاء إلى أجزاء أيضاً، وفي الشرع ما يحتمل الأمرين ولم يقطع على واحد منهما فما الصحيح؟.
الجواب عن ذلك وبالله التوفيق: إن الآيات التي فيها ذكر الخلق والطين ومن الأرض ومن التراب، المراد به آدم عليه السلام، وإنما ذكرنا لأنه أبونا وأصلنا، وإلا فالمعلوم من حالنا خلاف ذلك؛ لأنا من النطف وليست بطين، ولأن عيسى عليه السلام من غير نطفة، وقد قام الدليل بأنه تعالى الخالق، ولا ملجئ إلى القول بأنه خلقها من التراب والأرض؛ لأنه لا يفتقر إلى ذلك ولأن الأرض مخلوقة أيضاً، فمم هي؟ فإن أحدثها من غير شيء ألفها منه فكذلك الحيوان فهو دونها.(1/357)

71 / 92
ع
En
A+
A-