[ تحقيق النبوة ومسائل أخرى ]
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، سأل الإخوان كثَّر الله تعالى عددهم، وواتر مددهم، وحصر عدوهم، وقوى رشدهم، وبعّد لددهم، وكفاهم شر من عاندهم وحسدهم، عن أفضل ما سأل عنه السائلون، وأولى ما عني في بيانه العالمون.(1/348)


[ المسألة الأولى في معنى النبوة ]
اعلموا أيدكم الله بتوفيقه أن النبوة في الأنبياء عليهم السلام لفظة شرعية، فلها السلطان على ما قبلها من الألفاظ اللغوية، وما انبنى عليها من التعرفة، وهي تفيد عند إطلاقها إرسال الشخص إلى البشر بغير واسطة بشر، أو إرسأل الباري سبحانه إلى الشخص بغير واسطة بشر، فيكون بهذه الحال منبئا من قبل الله سبحانه وينبئ عن الله سبحانه، فيكون بذلك نبياً شرعاً.
فأما ما ذكره المخالف خذله الله من أنه بإنبائه الأمة يكون نبيا، فذلك جهل ظاهر؛ لأن مسيلمة وأمثاله من الكذابين قد أنبئوا الأمة ولم يكونوا بذلك أنبياء، والحقائق تطرد ولا تختلف، وكذلك نحن ننبي بالأحكام والشرائع ولسنا أنبياء.
وأما قوله عليه السلام: التؤدة، والاقتصار، والصمت، والتثبت جزء من ستة وعشرين جزءاً من النبوة، فقد تقدم الكلام في معنى النبوة، ولا يصح تجزئته، ولو كان ذلك كذلك لكان من فعل شيئاً من ذلك أطلقت عليه التجزئة بأنه نصف شيء أو ثلث أو ربع؛ لأنه قد يكون ثلث النبوة ونصفها أو ربعها، فلا يكون ذلك كذلك، بل يكون المراد أنه جزء من [كذا و]كذا جزء من أفعال أهل النبوة، وهذا الذي يعقل ويستقيم، [ثم] كذلك في نظائره كما ذكرها في الرؤيا الصادق، وغير ذلك مما يشابهه؛ فالمراد من أفعال أهل النبوة وأحوالهم أو ما يفعل لهم.
والدليل على صحة ما ذكرنا أن من أنبأه الله تعالى من البشر أو أرسله لإنباء البشر بغير واسطة بشر سميناه نبياً وإن عدم ما عدم، ومن كان على غير ذلك لم نسمه نبياً وإن وجد ما وجد تسمية شرعية.(1/349)


فأما تسمية أهل اللغة فالرفع نبا، والمنبي نبي، وإلا تطرقت إلى من أنبأه، ولا إلى من أنبأ، فلا وجه لذكر ما يجري هذا المجرى، وما روي عن أبي ذر رحمه الله تعالى هو آحاد، والنبوة من الأصول فلا يعترض به فيها، وإن صح ما ذكرنا في معنى النبوة لا نعتبر هذا؛ لأنا قد قلنا: من أنبأه الله بغير واسطة بشر فهو نبيٌ، وكذلك عيسى عليه السلام لأن الله تعالى أنبأه في تلك الحال بغير واسطة بشر بأنه يكون نبياً زكياً أينما كان، ومرسلاً إلى البرية وأمره ببر والدته وأن لا يكون جباراً شقياً، وأنه يكون معصوماً في حال حياته إلى أن يموت على العصمة لأنه قال: ?وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا?[مريم:33] وكل هذا الكلام لا سبيل إلى دفع حصوله عقب الولادة، ولا بد من كونه حقاً خارجاً عن الكذب، إذ لا يجوز ذلك عليه لأنه قاعدة أمره عليه السلام فهو نبأ بذلك، كما ترى لما أنباه الله تعالى بما حكى.
وأما أجر الدنيا فهو كثير في القرآن الكريم، و[كذلك] قوله تعالى: ?وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ?[يوسف:22، الأنعام:84] إلى نظائره، فإن المراد بذلك ما جعل الله لأنبيائه من الذكر الجميل والثناء العظيم.
وأما ما ذكروا أيدهم الله تعالى من التعظيم من الله تعالى لنبيه ابتداء فلا شك أنه تفضل.
وأما قولهم: إنه لا يستحق به التعظيم، فهذا أمر لا يثبت؛ لأن خلق آدم عليه السلام تفضلاً، وخلقه سلام الله عليه بيديه، وألقى نعمته تكريماً وتشريفاً، فجعل ذلك حجة على الملائكة في لزوم فرض السجود إليه، فلا بد أن يكون تعظيماً، والتعظيم يستحق بفعل العبد وبفعل العظيم له ويعلم ذلك بالعقل، كما أن الملك إذا رفع رجلاً وعظمه واختصه وكرمه لزم الرعية في حكم السياسة أن يجعلوا له مزية، وأن لا يساووا بينه وبين سواه، فكيف إذا كان المعظم له علام الغيوب سبحانه وتعالى، وسواءً كرمه ورفعه ابتداءً أم لاستحقاقه ذلك.(1/350)


وكما أن الكعبة حرسها الله تعالى والمشاعر والركن لها مزية شرعية، وجلالة ظاهرة معلومة وبيّنة بما فعله الله تعالى من تكريمه لها، وتعظيمه لأمرها، على لسان أنبيائه، وجعلها قبلة عباده، ومسجد أنبيائه، فكان لها بذلك مزية ظاهرة لا ينكرها من يعرف حرمة الدين، فالتشريفات والتعظيمات من الله تعالى ابتداءً تفضل، والبعثة هي غير هذا الأمر وهي لطف للمبعوث والمبعوث إليه فاعلم ذلك.(1/351)


المسألة الثانية [ في أن وجوب النظر فرع عن وجوب المعرفة ]
قالوا أيدهم الله تعالى في كلام حي القاضي شمس الدين رضي الله عنه، وأرضاه: إن وجوب النظر مقدم على وجوب المعرفة أعني النظر في طريق معرفة الله تعالى فأما العلم بوجوب المعرفة [فمتقدم] على العلم بوجوب النظر، وقال ولم يلزم ترتيب المعلومين بترتيب العلمين كالعالم والقديم تعالى.
قال: وفي كلام مولانا خلاف ذلك، وهو أن وجوب المعرفة يتقدم في الغرض، فكيف يصح الجمع بين ذلك وإن لم يكن القول متفقاً، فما حكم المخطئ في هذه المسألة؟.
الجواب عن ذلك: إن الكلام في وجوب المعرفة هو اتفاق، وإنما قيل بوجوب النظر لأنه طريق إليها، فوجوبه تابع لوجوبها، وتأدية وجوب المعرفة فرع على حصول النظر؛ إذ لا تحصل المعرفة إلا به، فلو حصلت من دونه لم يكن النظر معدوداً في الواجبات؛ لأنه لا يراد لنفسه فهو كالوضوء مع الصلاة وكالمشي مع رد الوديعة، فنحن قصدنا في قوله التحقيق، والقاضي رحمه الله تعالى زاد بياناً ووسع في كشف الغرض فلا تنافي بينهما.
وقوله: وجوب النظر متقدم على وجوب المعرفة لا يعقل منه إلا وجوب التأدية لا وجوب الإلزام، كما نقول في المشي والوديعة وجوبه متقدم على وجوب تأديتها إذ يتعذر خلافه، والتكليف لا يلزم بالتعذر، وأما على وجوبها فلا؛ لأن وجوبها هو الأصل وذلك تابع، وإنما قدم لكونه طريقاً، فلو حصل التطرق إليه بدونه لما وجب رأساً، وكذلك في النظر والمعرفة، والخلاف في هذه المسألة مما يخف به الحكم وهو أيضاً محتمل.
وأما التمثيل بالعالم والقديم فهو تقريب لأنه أتى في وقت جهل ظاهر؛ لأن غير العالم يقوم مقامه في الدلالة، كما لو أحدث تعالى جسماً أو عرضاً في جسم غير هذا العالم كان كافياً في الدلالة.(1/352)

70 / 92
ع
En
A+
A-