ولما قهرهم المسلمون بذي القصة وذي حسا وقتلوهم وأعلى الله الإسلام قال شاعر المسلمين يجيبهم -وهو زياد بن حنظلة التميمي:
أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا .... ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر
فما صبروا للحرب عند قيامها .... صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر
طرقنا بني عبس بأدنى نباجها .... وذبيان نهنها بقاصمة الظهر
ولما غلب المسلمون عبس وذبيان على بلادها وقال أبو بكر : حرام على بني ذبيان أن يتملكوا على هذه البلاد إذ غنمناها الله تعالى.
ولما دخلوا في الباب الذي خرجوا منه طلبوا سكنى بلادهم فقال أبو بكر: ليست لكم ببلاد وقد أفاءها الله علينا وأحماها وأرعاها؛ وهذا فيما لا يجهله أهل العلم، وما كان من القوم أكثر من منع الصدقة، فكيف بمن يمنع الصدقة وأضاف إلى ذلك أنواعاً من الكفر جمة، نفى فعل الله عن الله وأضافه إلى الإحالة وتأثيرات الطبائع، وأضاف أفعال العباد إلى الله بقوله: فعل العبد لا يعدوه، ولا يوجد في غيره، ومنعوا على ذلك الصدقة، ولما كتب أبو بكر إلى أهل الردة كتاباً طويلاً نذكر منه ما تمس إليه الحاجة.(1/31)


[ كتاب أبي بكر إلى أهل الردة ]
بسم الله الرحمن الرحيم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة أو خاصة. سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له. أما بعد.. فإن الله أرسل محمداً من عنده إلى خلقه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب بأذنه من أدبر عنه حتى صاروا إلى الإسلام طوعاً وكرهاً، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنفذ أمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه، وقد قال تعالى: ?إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ?[الزمر:30]، وقال: ?وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ?[الأنبياء:34]، وقال تعالى: ?وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ?[آل عمران:144] فمن كان يعبد محمداً؛ فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي قيوم لا يموت، لا تأخذه سنة ولا نوم -والكتاب طويل وإنما نذكر منه موضع الزبدة مما تمس إلى ذكره الحاجة- قال في آخره: وإني قد بعثت إليكم جيشاً من المهاجرين والأنصار، والمتابعين بإحسان، وأمرتهم أن لا يقاتلوا أحدا حتى يدعوه، فمن رجع إلى الحق قبل منه، ومن أبى قاتلوه، ثم لا يبقون عليه بقية، ولا يتركون أحداً ممن يقدرون عليه، بل يحرقونهم بالنار ويقتلونهم كل قتلة، وتسبى النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام فمن اتبعه فهو خير له، ومن ترك فلن يعجز الله.(1/32)


[ أحكام أهل الردة ]
فهذا كما ترى الحكم في أهل الردة بإجماع من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أنكره منكر، ولا غيره مغير، ولو جرى في ذلك نزاع لنقل كما نقل غيره من الأحداث، والحديث والإجماع أكد الدلالة، ولم يقع خلاف [كما] كان في الصدر الأول وما يليه من صدور الإسلام ولا إلى يومنا هذا في كفر الثلاث الطرق التي قدمنا ذكرها في أهل الردة، ولا وقع خلاف أن المرتدين كانوا يرتدون بأحد الثلاثة الأحوال، ولا خلاف أن المرتد متى كانت له شوكة كان حكمه حكم الكافر الأصلي، وأن دارهم تكون دار حرب، فما كانت أحكام دار الحرب كانت أحكامها وكذلك لا خلاف أن خولة بنت يزيد بن جعفر بن قيس بن مسيلمة بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حليفة بن نجيم أم محمد بن الحنفية عليه السلام كانت من سبي بني حنيفة بن نجيم، وقعت سهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فاستولدها محمداًعليه السلام.
وقد ذكر ذلك الشعراء وهو لا يفتقر إلى بيان، ولكننا لا نجد بداًّ من مزيد بيان لضلال كثير من الأمة وسعة جهلهم في هذه المدة. قال فيه الشاعر:
أمه من حنيفة بن لجيم .... من بني الدؤل في المصاص الصميم
ومثله قول الآخر:
ألا قل للإمام فدتك نفسي .... أطلت بذلك الجبل المقاما
أضر بمعشر والوك طراًّ .... وقوفك عنهم تسعين عاما
وعادوا فيك أهل الأرض جمعا.... وسموك الخليفة والإماما
وما ذاق ابن خولة طعم موت .... ولا وارت له أرض عظاما(1/33)


وكانت الكيسانية تزعم أنه حي مرزوق، وأنه المهدي الذي بشَّر الله به ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ولهم في ذلك كلام كثير وليس هذا مما نحن فيه في شيء -أعني ذكر الحياة ومن يقول بذلك فيستقصى ذكره ونذكر ما جاء فيه -لأن قصدنا في هذه الرسالة ليس إلا بيان ذكر أهل الردة وأحكامهم، وأن المطرفية الملعونة ومن شايعها من أهل (المصانع) الجهلة حكمهم حكمهم بلا خلاف في ذلك، وإن ردَّتهم بوجوه كثيرة أقوال أهل الفرق الثلاث من أهل الردة داخلة في بعض أقوال هؤلاء، ولا بدنا من ذكر من سبي جملة، وما كان قول تلك الفرقة المسبية ليعلم المستبصر أن القوم في عصرنا زادوا على أهل الردة أضعافاً مضاعفة، وبلغوا النهاية العظمى في الكفر، فأي حرمة بقيت لهم ولا معول على صلاتهم ولا شهادتهم كما قدمنا ذكره من أن بعض أهل الردة بقي معتصماً بالصلاة وهي فرع على الشهادة. والكفر أجناس ومقالات واعتقادات وأفعال إن حصل واحد منها كفى في كون مرتكبه كافراً، وإن اجتمعت فأجدر أن يكون كافراً، بل ذلك الكفر المضاعف، ولسنا نتمكن من استقصاء ذكره، وإنما نذكر ما تيسر من ذلك مما يكون دليلا على غيره.(1/34)


[ موجب تكفير المطرفية ]
فمن الكفر: اعتقاد اليهودية، والنصرانية، والمجوسية والثنوية، واعتقاد الوثنية في أن الأصنام تضر وتنفع من دون الله تعالى، ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ذكرنا.
وكذلك لا يتحقق الخلاف في كفر من طابقهم من هذه الأمة وصوَّب أفعالهم، وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون، بل قد وقع التكفير بدون ذلك وهو ما رواه الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان بن الهادي إلى الحق سلام الله عليه رفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله ً: ((من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يوم القيامة يهودياً. قال جابر: قلت: يا رسول الله وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) ولا يبعث يهودياً إلا من حكمه حكم اليهود، ولا يكون حكمه حكم اليهود إلا وهو كافر؛ وإنما قلنا: إن حكم المطرفية حكم اليهود لأناَّ وجدنا فيهم صفة اليهود وزيادة في الكفر، وذلك أن اليهود أقرت بالله تعالى ورسله وكتبه، والبعث والنشور، والجنة والنار، واعترفت بأفعال الله تعالى أنها فعله، وأنها حكمة وصواب، محبوبها ومكروهها، وأنكرت نبوة عيسى عليه السلام وكتابه، وأنكرت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكتابه، وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء -يريدون عيسى ومحمداً عليهما السلام- فقرر الله سبحانه عليهم الاحتجاج بقوله تعالى: ?قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ?[الأنعام:91]، واعترفوا بنبوة مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي إلا نبيين، وبإنزال مائة كتاب وكتابين، وأنكروا كتابين. فكفروا بذلك على لسان عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وعلى الطيبين من ذرية محمد وسلامه.(1/35)

7 / 92
ع
En
A+
A-