مسألة[ في الصحابة الذين تقدموا على علي عليه السلام ]
في الصحابة الذين تقدموا على علي عليه السلام ومن اتبعهم وتابعهم كيف يجوز الترضية عنهم وقد عدلوا عمن صحت إمامته عندهم؛ لأن الأدلة على إمامته عليه السلام كانت معلومة لهم ضرورة .
فإن قال قائل: إنهم علموا الأدلة وأنهم [لا] يعلموا كونها أدلة، قلنا: عن هذا جوابان:
أحدهما: إن تركهم للنظر فيها يكون معصية .
والثاني: إنهم كانوا أعلم بمقاصد الكلام ومعانيه من أهل هذا الزمان، فكيف يصح بأن يقال: إنهم لم يعرفوا كونها أدلة، فمع هذه الأمور كيف تجوز الترضية عنهم، بل لو قال بلعنهم وسبهم والبراءة منهم لكان أسعد حالاً ممن رضّى عنهم؛ لأنهم طردوا بنت نبيهم عن مالها، وأخرجوها من بيتها وأرادوا تحريق بيتها وقتل بعلها، وكان تقدمهم أول خلاف جرى في الإسلام وهو سبب قتل أهل البيت عليهم السلام وطردهم وأخذ حقهم إلى الآن.
وبعد، فقد ثبت أن من امتنع من إجابة داعي أهل البيت كبه الله على منخريه في النار، فمن قاتله فهو أكثر ذنباً وأعظم جرما، وقد علمنا أن عليا عليه السلام لو أراد أخذ الأمر دونه لحاربوه على ذلك.
وأيضاً فإنهم أُمروا بمودة أهل البيت فلم يفعلوا ذلك لما ظهر من رفضهم لهم، وقلة احتفالهم بهم وهو يقتضي زوال المودة، بل ربما دل على البغض رفضهم لعلي عليه السلام وأخذهم الأمر دونه، والاستئثار عليه بحقه، وأحداث عثمان كثيرة جمة، وتفصيل ما جرى منهم يتعذر إحصاؤه في هذا الموضع ولكن الإشارة إلى جمله يكفي.
الجواب عن ذلك: إن الصحابة عندنا أفضل بعد الأئمة عليهم السلام قبل إحداثهم، وبعد الإحداث لنا أئمة نرجع إليهم في أمور ديننا، ونقدم حيث أقدموا ونحجم حيث أحجموا، وهم علي وولداه عليهم السلام والحادث عليهم وغضبنا فيهم، ولم نعلم من أحد منهم سب أحدا من الصحابة ولا لعنه ولا شتمه لا في مدة حياتهم ولا بعد وفاتهم.(1/333)
فالذي تقرر عندنا أن عليا عليه السلام أفضل الأمة بعد رسول اللهً وولديه أفضلهم بعد علي عليه السلام لما تظاهر فيهم من الأدلة عن الله سبحانه وتعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتقدم عليهم من أبي بكر وعمر وعثمان نقول بتخطئتهم ومعصيتهم لترك الاستدلال على علي عليه السلام بالنصوص الواردة عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في إمامته، ونقول: إن النصوص استدلالية؛لأنها محتملة، ولذلك جرى فيها النزاع الطويل والجدال الشديد من ذلك اليوم إلى يوم الناس هذا وإلى انقطاع التكليف، وكل يحتج بما له وجه.
وقولنا: هو الأحق والأولى لما ظاهرنا عليه من البراهين، ونصبنا من الأدلة التي لا توجد مع خصومنا، وندعي عليهم انقطاع المرام في تصحيح ما توسموه، وتلك الخطايا والمعاصي بالتقدم فتنقطع العصمة، وإنما يجوز أن يكون كفرا وأن يكون صغيرة، ولمَّا يظهر لنا على ذلك دليل ولا بلغنا عن سلفنا الصالح عليه السلام ما نعتمده في أمرهم، ولهم أعظم حرمة في الإسلام؛ لأنهم أول من أجاب دعوة جدنا صلى الله عليه وآله وسلم ونابز عنه وعز به الإسلام، وقاتل الآباء والأبناء والأقارب في الله حتى قام عمود الإسلام، وأتى فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يأت في غيرهم، وكان فيهم حديث بدر وآية بيعة الرضوان، فصار الإقدام في أمرهم شديدا.
وإنما نقول: إن كانت معاصيهم كبيرة، فالله تعالى لا يتهم في حال، والكبائر تبطل الطاعات وإن عظمت، وإن كانت صغيرة فلبعض ما تقدم من عنايتهم في الإسلام وسبقهم إلى الدين ولا يمكن أحد من أهل العصر ولا من قبله من الأعصار أن يدعي مثل سعيهم ومثل عنايتهم في الدين، وعلي عليه السلام وولداه هم القدوة فلا نتجاوز ما بلغوه في أمر القوم، وهو نعي أفعالهم عليهم وإعلامهم لهم أنهم أولى بالأمر منهم، ولم يظهروا لنا أحكام أولئك إن خالفوهم ولا باينوهم مباينة الفاسقين في عصرهم.(1/334)
فأما من خالف عليا عليه السلام وولديه -سلام الله عليهما- فلا شك في فسقهم، ويتعدى الحال إلى تكفير بعضهم كمعاوية وولده لعنهم الله تعالى؛ فإن معاوية كفر بسب علي عليه السلام، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: ((من سبك فقد سبني)) وسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفر بالإجماع، وقال ً: ((يا علي بحبك يعرف المؤمنون وببغضك يعرف المنافقون، يا علي من أحبك لقي الله مؤمناً ومن أبغضك لقي الله منافقاً)) والنفاق، ولئن أمكن أولياءه الدفاع في هذه الأخبار وإنكارها [لم] يمكنهم ادعاؤه زياداً أو رده لما علم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة من قوله: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))، فقال الولد للعاهر، فلا يظهر غيره، فكفر لذلك بالنص المعلوم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع الأمة على أنه فعل ذلك وأنه خلاف دين الإسلام.
وأما ولده فإنما كفر بقتله ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسين بن علي عليهما السلام وقد ثبت أن من آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفر، وقتل ولده أعظم الأذية، ولأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم المدينة ما بين لابتيها، وأمر أن لا يقطع شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها، ومن فعل ذلك فعليه لعنة الله، فاستحل حرمتها وقتل أبناء المهاجرين والأنصار فيها ستة آلاف مسلم مستحل لذلك، فقطع غصن من أغصان شجرها استحلالاً، يكفر من قطع ذلك، فكيف بقتل ستة آلاف مسلم، وأمر برمي الكعبة واستباحة حرمة مكة حرسها الله -وقد منعها الله من أصحاب الفيل- وإنما أملى لهذه الأمة وأخر عقابهم إلى دار الآخرة.(1/335)
وأما المودة لأهل البيت عليهم السلام فهي فرض الله على عباده، وأجر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: ?قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى?[الشورى:23]، وقد ورد الوعيد في من ظلم محمد صلوات الله عليه وآله وسلم وإنما نقول: إن القوم لم يقع منهم البغضة، بل يدعون المحبة والمودة، ويظهرون الولاية والشفقة، وبواطن الأمور لا يعلمها إلا الله عز وجل.
وأما أمر فدك فقد كان فيها النزاع، وتأولوا خبر النبي ً: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما خلفناه صدقة)) على غير ما تأولناه؛ لأن عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيَّن أن ما قبضه من الصدقة لا يكون إرثاً لوارثه، وإنما يكون مرجعه إلى بيت المال ف(ما) عندنا اسم ناقص بمعنى الذي، فكأنه قال: الذي نتركه من الصدقات لا يورث عندنا معاشر الأنبياء، وأما أملاكهم فلم نعلم أن الله سبحانه فرق بينهم وبين غيرهم في ذلك.
وقد وقعت أمور هنالك رددنا أمرها إلى الله عز وجل، ورضينا على الصحابة عموماً، فإن دخل المتقدمون على علي عليه السلام في صميمهم في علم الله سبحانه لم نحسدهم رحمة ربهم، وإن أخرجهم سبحانه بعلمه لاستحقاقهم فهو لا يتهم في بريته، وكنا قد سلمنا خطر الاقتحام، وأدّينا ما يلزمنا من تعظيم أهل ذلك المقام، الذين حموا حوزة الإسلام، ونابذوا في أمره الخاص والعام.
وأما عثمان وإحداثه فلا شك في قبحها، وجوابنا فيها ما قال علي عليه السلام: إنه قد قدم على عمله فإن كان محسناً فقد لقي رباًّ شكوراً يكافئه على إحسانه، وإن كان مسيئاً فقد أتى رباً غفوراً لا يتعاظم أن يعفو عن شأنه، وهذا كلام علي عليه السلام فيه مثل قوله: إنه استأثر فأساء في الأثرة، وعاقبتم فأسأتم في العقوبة، ولله حكم في المستأثر والمعاقب، وهذا ما قضى به الدليل وأدى إليه النظر، ومن الله سبحانه نستمد التوفيق في البداية والنهاية والبلوغ إلى أسعد غاية.(1/336)
مسألة في أبي بكر وعمر وعثمان وفي ولايتهم
أيجب علينا موالاتهم بالمودة الكلية أم سوى ذلك ؟
الجواب عن ذلك: إن ولاية أبي بكر وعمر وعثمان غير صحيحة عندنا لا دليل عليها، وما لا دليل عليه لا يجوز إثباته، والإمام عندنا علي عليه السلام بالنص الظاهر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما خفي في معناه وقد قام الدليل بصحة ما ادعينا فيه؛ لأن المعاني التي ذُكِرت في معنى النص مما يصح في علي غير متنافية، فتحمل على الجمع وفي ذلك معنى الإمامة.(1/337)