مسألة [ فيمن ينوي الظلم ولا يتمكن من فعله ]
فيمن ينوي الظلم والعناد ولا يتمكن من ذلك لعذر يحول. هل يكون للنية عليه عقاب كالقول، أم ليس العقاب إلا بالفعل ولا تأثير للنية في ذلك؟
والجواب عن ذلك: إن الأفعال تنقسم إلى: أفعال القلوب، وأفعال الجوارح؛ والتعبد ورد بترك القبيح من الأمرين جميعاً، قال الله تعالى : ?إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ?[الحجرات:12] وهو من أفعال القلوب فمن نوى فعل الفساد وفعل القبيح ولم يتركه إلا لمانع فإنه يأثم لأجل ذلك، وقد قال النبي ً: ((الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى))، ولذلك قوله: ((نية المؤمن خير من عمله)) إلى غير ذلك، ولأن اعتقاد الكفر يوجب الخلود في النار بالإجماع وإن لم يفعل العبد شيئاً بجوارحه.(1/308)


مسألة [ الرد على من يقول بأن النبوة والإمامة جزاء على الأعمال ]
في قول من يقول: إن النبوة والإمامة جزاء على الأعمال، ويحتج بقوله تعالى: ?فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ?[آل عمران:148]، وبقوله تعالى: ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ?[الزمر:65]، وزعم المخالف أن هذه الآية تدل على أن النبوة فعل النبي ً؛ لأنها لو كانت فعل الله لما حسن خطابه لنبيه بذلك [وذلك] أيضاً سائغ في اللغة في قولهم: نبا ينبو، فهو ناب.
الكلام في ذلك: إن النبوة لو كانت فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكانت إنباء لإبانة فعل من أفعاله، وإلا فالمسلمون يفعلون مثله من صوم وصلاة، وحج وجهاد، وغير ذلك من فعل الجوارح، وعدل وتوحيد، وتصديق، ووعد ووعيد، وغير ذلك من سائر الاعتقادات، وكان لابد أن يكون الكل نبياً أو بعض نبي، أو إماماً أو بعض إمام، وهذا لم يقل به أحد من العقلاء مؤمنهم ولا كافرهم.(1/309)


وأما الحجة بقوله تعالى: ?فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ?[آل عمران:148]، فما في هذا الظاهر من دلالة على أن النبوة ثواب، ولو كانت جزاءً على الأعمال، فالجزاء فعل المجازي لكانت فعل الله تعالى على هذا التأويل، كما أن الثواب فعل المثيب لا فعل المثاب، وكذلك الآيات التي فيها ذكر المحسنين، كقوله تعالى: ?وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ?[يوسف:22، الأنعام:84]، وما شابهه لا ظاهر في ذلك يدل على ما ذهب إليه المخالفون في الدين، فإن قالوا إلا التأويل فنحن أولى به منهم لكوننا أهله، فنحن نقول: ثواب الدنيا هو الذكر الجميل، وثواب الآخرة هو المنازل في الجنة، وذلك مستقيم؛ لأن الثواب يقترن به التعظيم والإجلال وهو يجب من نابي الفعل، وقد تأخرت الملاذ والمنافع إلى دار الآخرة عن دار التكليف، فبقي الإجلال والتعظيم في هذه الدنيا، والثواب المستحق هو ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة فيما بعد، ولولا عمى بصائر القوم بالخذلان لما جرؤوا في هذا الميدان .
وأما احتجاجهم بقوله تعالى: ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ?[الزمر:65]، فهو أبعد عن المراد وأنأى عن السداد.
والكلام في ذلك: إن الله تعالى قد علم أن نبيه لا يشرك، وإنما جعل [ذلك] تمثيلاً بما المعلوم خلافه ليقول المسلمون: إذا كان نبيه وهو نبيه إذا أشرك حبط عمله فكيف بنا ولسنا مثله في حاله.
وأما ظاهر الآية فإن ذكر النبوة فيها أو الدلالة على أنها عمل، لولا أن الله تعالى وكل القوم إلى أنفسهم فتاهوا في الضلالة وخبطوا في الجهالة فنسأل الله التوفيق.(1/310)


والنبوة هي الرسالة بحيث لا فرق بينهما كالجلوس والقعود، لا نقول: هو نبي وليس برسول، ولا رسول فليس بنبي، وهي فعل المرسل لا إشكال في ذلك، وكذلك الإمامة فعل الأمر بها لشخص من الأشخاص كما في علي عليه السلام وولديه، أو لمن وجدت فيه صفته كما في سائر الأئمة من أولادهما، فتلك إمامة بالنص وهذه بالصفة كما يقول: من كانت صفته كذا وكذا فقد أمرهم بكذا وكذا؛ لأن الله تعالى أمر بالجهاد، وإقامة الحدود، وإنفاذ الأحكام، وتجييش الجيوش، وذلك لا يكون إلا برئيس، فأعلم الله تعالى به مجملاً، فقال تعالى: ?يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ?[الرحمن:33]، فهذا مجمل احتجنا فيه إلى البيان، فقال تعالى: ?أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[يونس:35]، فوقع بعض بيان فأتى قوله تعالى: ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ?[النور:55]، فجمع قوله تعالى: ?آمَنُوا? جميع الاعتقادات، وقوله: ?وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? جميع الأعمال في الطاعات، والله لا يخلف الميعاد، فالخلافة لمن هذه حاله، فإذا اجتمع العلم والسخاء والشجاعة والورع والزهد والقوة على تدبير الأمر وعند ذلك يحصل الفضل لا محالة تجب كلمتين من الآية.
قلنا: لأن الله تعالى أمر بمودتهم خصوصاً وبمودة المؤمنين عموماً، وحض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات المعلومة على اتباعه حضاً شديداً، فأفاد ذلك ثبوت الإمامة لهم دون غيرهم؛ لأنه قد حصل فيهم [ما]لم يحصل في غيرهم، فلو كان اتباعهم بالظن إلا أنه الأقوى لقوة إمارته لما جاز العدول إلى غيرهم فكيف وهو ثابت بالعلم.(1/311)


وأما احتجاجه بالتصريف في: نبا، ينبو، فهو نابي، فهذا أبعد وأبرد؛ لأن التصريف يصح في أفعال الله تعالى بالإجماع كقولنا: طَالَ، يَطولُ، طُولاً فهو طَويلٌ، وسمن، يسمن، سِمَناً فهو سَمِين، وحَسُن، يَحْسُن حُسْناً فهو حَسينُ، وذلك إنما يثبت في ثبات النبوة الذي هو الارتفاع، فإن كان ذلك فالله [سبحانه] الذي رفعه فالرفع فعل الرافع لا المرفوع، وإن كان معنى الإخبار والإعلام فالله تعالى الذي أخبره وأعلمه بالغيوب بغير واسطة بشر وذلك معنى الرسالة، فلو كانت النبوة تصح بمطلق الرفعة أو الإخبار والإعلام لكان الكل نبياً، فاعلم ذلك.(1/312)

62 / 92
ع
En
A+
A-