[ الإقرار بالسبي ونفي بعض الأكاذيب ]
فأما حكاياتهم للسبي فقد صدقوا في ذلك وحده، ولم نفعله ونأمر به ونحن نريد كتمانه، وكيف نكتم ذلك والله عز من قائل يقول: ?وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ?[آل عمران: 187] ويقول سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا?[البقرة:159،160].
فأما حكايتهم أنه وقع الوطء قبل الاستبراء، وأن المرأة الواحدة اتفق على وطئها جماعة، فذلك من كذبهم الذي قدمنا ذكره، وكيف صح لهم العلم بذلك ولم يشاهدوا لخوفهم منا وبعدهم عنا؟.
أتيت كلباً خاف رميي له .... ينبحني من موضعٍ نائي
أو روى ذلك لهم عسكرنا؟ فعندهم أنهم ليسوا بثقات في الرواية، فما مثالهم فيما ارتكبوه من هذه الشناعة إلا مثل الثعالب والظربان إذا لحقتها الجوارح والسباع رامت طردها بالرائحة الخبيثة وقلما يغني ذلك عنها.(1/26)
أخبرونا من الذي رحض الأرض من أدرانها، وفقأ عين شيطانها، وأذهب الفواسد من هجرة يحيى بن الحسين الهادي إلى الحق عليه السلام وقد جسّ خلالها، وفتن رجالها، وكذلك من شظب وغيره من المغارب والمشارق، بعد توالي الأعصار، ومرور الدهور. فهل من ركب الأخطار، في نفي هذه الأوزار، يرضى بارتكاب ما حكوه من المنكر، من وطء الجماعة أو الاثنين لامرأة واحدة؟ يأبى الله ذلك، وحواجز الإسلام وموانع [حدود] الإيمان. وموالد طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية؛ فأما السبي فقد حمدنا الله تعالى عليه حيث تجددت الأحكام النبوية، والأدلة الظاهرة الجلية، الإمامية العلوية، فلا جواب في كذبهم إلا علم الصالحين باستحالة قولهم؛ لأن الأمر في ذلك كما قال الشاعر:
لي حيلة فيمن ينمُّ .... وليس في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يشاء .... فحيلتي فيه قليله(1/27)
[ بيان أسباب السبي ]
وأما أمر الكلام في باب السبي فقد عوَّل علينا جماعة من الإخوان المتقدم سبقهم، الواجب حقهم، أن نشرح في ذلك شرحاً كافياً، ونبين بياناً شافياً، ليكون مدحرة لشيطان المتمردين، وبرهاناً لرغبة المسترشدين، وبالله نستعين، وعليه نتوكل. فأجبناهم إلى ما سألوا تعرضاً لأجر الهداية، وقياما بفرض الرعاية ?أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[يونس:35].(1/28)
[ الردة ]
اعلم أيدك الله وهداك وحاطك وتولاك: أن الردة لا تكون إلا بعد الإسلام؛ لأن الكافر الأصلي لا يكون مرتداً، فإذا قد تقرر هذا الأصل فاعلم أن أول ردة كانت في الإسلام ردة مسيلمة بن حبيب بن قيس بن حبيب، وردة ذي الخمار المكنى عبهلة، والملقب الأسود، والمسمى كعب العنسي الخارج من حرف خبان، المستشري أمره في اليمن استشراء النار في الحطب، حتى ملك من قعر عدن إلى حلي، ومن خبان إلى نجران، وكان كل واحد منهما يدعي النبوة .
فأما مسيلمة فادعى الشركة في الأمر مع النبيً، وهو معترف بصحة ما جاء به محمد من عند ربه. هذه حاله في أول أمره، ثم تبعتها [بعد ذلك] الردة فطبقت عامة جزيرة العرب، فقام طليحة في نجد في الحليفتين: أسد وغطفان وطي، وقامت هوازن على قادتها، وتميم في نتاجها؛ وأكثر جهاتها، وارتدت ربيعة ومن حالفها من قيس، ومن انظم إلى الغرور والحطم من تلك القبائل، وارتدت عمان مع لقيط بن مالك الأزدي الذي كان يقال له: ذو التاج، وكذلك مهرة وكندة بحضرموت، وسليم على قرب دارها.(1/29)
[ فرق المرتدين ]
واختلف أهل هذه الردة على أقوال شتى، وفروع وتشتت آراء، ومعظم قولهم في الجملة على ثلاثة أقوال ما شذ عنها في اللفظ رجع إليها في المعنى:
فرقة أنكروا الإسلام جميعاً، وصوَّبوا ما كانت عليه الجاهلية وهم الأقل.
وفرقة أقروا بالإسلام جملة ولم ينقصوا حرفاً واحداً إلا الزكاة فقالوا: كانت تجب تأديتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته يفرقها أربابها في مستحقيها؛ فخالفوا ما علم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة، أن ما كان له من الأمر في الأمة كان للإمام القائم بالحق من بعده.
وفرقة قالوا: نقر بالإسلام، ولكن لا نقيم الصلاة، ولا نؤتي الزكاة ويكفينا الإقرار بالإسلام.
فهاتان الفرقتان مقرتان بالإسلام، شامختان بالتوحيد، يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؛ وإنما منعوا الصدقة من القائم بعد رسول اللهً حتى أن جل الصحابة رضي الله عنهم قالوا لأبي بكر: لو تركتهم والصدقة حتى يتقوى أمرنا، ويرجع إلينا بعض ما نريد من قوتنا لكان أولى. فقال: والله لو منعوني عناقاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [لقاتلتهم عليه]. ولا خلاف نعلمه بين أحد [من المسليمن] العلماء أن أبا بكر ما قاتل إلا المرتدة، فجعلوا منع الصدقة ردة، وناهدهم الحرب فهزموا المسلمين في أول يوم فقال شاعرهم - قيل: إنه الحطيئة:
فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي .... عشية يحدي بالرماح أبو بكر
عشية طارت بالرجال ركابها .... ولله جند ما تطير ولا تجري
ولكن تدهدى بالرجال فهبنه .... إلى قدر ما أن يزيد ولا يجري
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا .... فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيورثها بكراً إذا كان بعده .... وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بزمانه .... وهلا خشيتم حس راعية البكر
وإن الذي سألوكُمُ ومنعتمُ .... لكالتمر أو أحلى لدي من التمر(1/30)