وأما الجن والإنس فتعلقت مصلحتهم بأن يعلموا من جهة السمع أن له سبحانه عرشاً وكرسياً في مقدار من الجسمية عظيم، وأنه حافظ لهما، وممسك لهما أن يزولا عن أماكنهما، وأن ينحطا على ناحيتهما بغير علاقة ولا عمد، مع أنهما في غاية من العظم ولم يشغله ذلك عن حفظ السماوات والأرض وما بينهما، ولا آده بمعنى هاضه وبهضه حفظهما، وهو العلي عن ظلم عباده، العظيم عن لحوق السآمة، ولا شك أن العاقل إذا سمع بعظم اقتدار ملكه وشدة حفظه لملكه مع سعته وانتشاره أنه يكون أقرب إلى مطاوعته، وأبعد عن مخالفته، خيفة من سطوته، وطلباً لفضله وعطيته، فلما علم سبحانه أن صلاح المكلفين في ذلك أوجده على مقدار ما يعلمه من الصلاح، فاضطر سبحانه الملائكة إلى مشاهدته، وأخبر الجن والإنس به على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فهذا هو المراد الذي سأل عنه في خلق العرش والكرسي، لأنه سبحانه لما أراد من المكلفين العبادة اقتضت الحكمة وجوب اللطف المقرب مما أراد، ولم يكن سبحانه ليحل ما يجب في الحكمة فعله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، هذا خبر أتينا على آخر كتابنا وابتدأنا باسم الله وانتهينا إلى حمده، وهو أهل الحمد ومستحقه، ومولاه ووليه، لما خصنا به من الهداية، ومنحنا من الكرامة، وأمدنا به من العصمة، وحبانا به من ولادة نبيه الأمين صلوات الله عليه وعلى آله الأكرمين فأنى بعدها منه فضال دونها المنن، ونعمة صافية الزبل والردن، إذ وصل حبلنا مما لا يخشى انقطاعه، وأحلنا طوداً من المجد معشبة تلاعه، كما ورد عن النبي العربيً: ((كل نسب منقطع إلا نسبي وسببي)) ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون، فحمداً له حمداً وشكراً له شكراً، إذ جعلنا الأدلة إلى دينه، واجتبانا لقمع الباطل وشياطينه، قال رسوله المكرمً: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي يعلن الحق وينوره، ويرد كيد الكائدين)) فاعتبروا يا أولي(1/293)
الأبصار، ومعاذ الله أن أتصدر لافتخار، وكيف والنهي وارد عنه، ولكني ما أورد ما أورد إلا إظهاراً للنعمة والأمر وارد به. قال عز من قائل: ?فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ?[الأعراف:69، 74] أي نعمه، فلما لم يذكروا عاقبهم على ترك ذكر الآلاء، نعوذ بالله أن نكون من العاصين فيرهقنا العقاب، أو نتعدى الحدود فينزل بنا العذاب، ونسأل الله أن يرزقنا متابعة السلف الصالح من آبائنا، ويجعل ذلك الظاهر من إتياننا، والباطن من ضمائرنا، الذين قرنهم بكتابه العزيز على لسان نبيه الكريم في خطابه للأمة، وقد شكوا عليه بعد وفاته مخافة الغمة، حيث يقول: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليا الحوض)) لن لنفي لضلال آخر الأبد وورود الحوض يوم القيامة، وليس بعد ذلك تكليف فمثلهم بسيفنة نوح العاصمة، وجعل مخالفتهم المغرقة القاصمة، فقالً صلاة تبلغه الرضى: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) وهوً لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، هلكت أمة نوح إلا من ركب السفينة، كذلك أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا من تمسك بالعترة، وكيف يكونون [كذلك] وأهل ذلك ومجالستهم كمجالس [الداوي] إن لم يفده من عطره أفاده من ريحه ونشره، ومجالس غيرهم كمجالس صاحب الكير إن لم تحرقه شراره، لم يسلم من نتنه وأواره، نزل الوحي في منازلهم، واختلفت الملائكة إلى ديارهم، وكرعت العلماء من آثارهم، ميمونة طلعتهم، محمودة نقيلتهم، مرضية سيرتهم، العدل سجيتهم، والإحسان طبيعتهم، والكرم شنشنتهم، أتباعهم خير الأتباع، وشيعتهم خير الأشياع، كما ورد في الخبر عن خيرة البشر، فيما روي عن العلي : ((خلقتكم من طينة عليين)) يعني محمداً وعليا وفاطمة والحسن والحسين -صلوات الله عليهم أجمعين وآلهم الطيبين- ((وخلقت شيعتكم منكم إنهم لو ظهر على أعناقهم السيوف(1/294)
لم يزدادوا لكم إلا حبا، أولئك نعم الأتباع لنعم المتبوعون)) أنصار الدين، وأعصار ذخرتهم شفاعة الرسولً كما ورد في الحديث المنقول، حيث يقول ً: ((دخرت شفاعتي لثلاثة من أمتي: رجل قضى لأهل البيت حوائجهم لما احتاجوا إليه، ورجل أحبهم بقلبه ولسانه، ورجل ضارب بين أيديهم بسيفه)) فهلم أيها الأخ ومن وقف على هذا الكلام إلى حضرتهم للسلوك في زمرتهم، والدخول في جماعتهم، لتفوز فوزا عظيماً، وتنال في الآخرة ملكاً جسيماً، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(1/295)
فصل
قد صدرت الأجوبة عما ورد [من] الأسئلة، كارعة في مواردها، قاصدة إلى مقاصدها، متجانفة عن الحال المزري، بقرينة رائعة [الا صبط] في عرينه لا يقعقع لها بالشن فترتاع، ولا تنزوي عن المصاع فتنصاع، عارضة جبينها للاختبار، حاسرة برقعها للنظار، قائدة للوذعي بزمام للانصاف، مال المسيف وغير المستاف، ووسمتها ب(الجوهرة الشفافة، رادعة الطوافة)، يتخذها ذو البصيرة ذخيرة، أغنى له عند النضال، من الزرد المدال، تنطق بلسان النصيحة، وتنبي عن العقيدة الصحيحة، تمت إلى الشيء بعرى أداحيها، وترقى إلى تفرع مناهيها، داعية للألمعي بصفحات معانيها، معربة للمدعي بضباة مواضيها، محكمة المباني، واضحة المعاني، محصدة المثاني، يشهد لسان فضلها على كرم نجارها، وشدة عزمها على نجدة أنصارها، وسحوب قرطاسها على بعد مغارها، أمرتها بعصف الشمال، وشد الصبا، حتى تنيخ بديار الأدباء تطمس مخارق النوق، وتروع فراخ الأنوق، إن اتصلت بمعالم قرت وسرت، وإن ألمت بمجاهل فرت ضرت، يعيبها من عابها والجهل عاذره، وبلومها لمن لامها لا عزّ ناصره، وأرجو أن تكون داعية للمسترشد إلى بحث أهل الأصول، ومراجعة ذوي العقول، وأمرتها بالاندراج في مدارج الطوافة، والأدراع لامة العفافة لو قرعت سمع كثير لنسي [ثانيه] وأفرد للعدل والتوحيد رويته، ولم يسهل للريان مقلته، وكانت مجالسة العلماء هجيراه وطينته، ويوجب فيها الاقتصار على ما يغني، ويتجنب الإكثار الذي يعنى، علما بأن روائح العنبر يدل على (عنقه) من شافه، وإن معادن الجوهر تستدعي إليه من سمع أوصافه، وأن الحياء من شام برقه انتجعه، وأن الهدى من تنوَّر ناره اتبعه،
ولولا أن يظن بنا غلوٌّ لزدنا في المقال من استزاد(1/296)
ونار بني علي من وردت عليه من أريب وعالم لبيب بمعبوده ومقصوده، وثر بأنه بركوعه وسجوده أن لا يضرب عن الإصدار بها صفحا، ويستدل على نهارها من ليل الاستبداد جنحا، إنسخ ولا حرج ولا ضير ولا تحذف منها حرفا، فقد جعلتها من المرسلات عرفا، وحبستها في سبيل الله ناقة حرفا، تركض في الأرض طولا وعرضا، وتطوي السباسب نصّا ونهضا، إلى أن ترد إلى الحق واضح المحجة، وأن الأرض لا تخلو لله من حجة، ?وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ?[هود:88].
والسلام على كافة إخوان الوفا، وخلان الصفا ورحمة الله وبركاته
وصلى الله على محمد وآله وسلم(1/297)