المسألة السابعة والأربعون[ معنى قوله تعالى:?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ? ]
قال تولى الله هدايته: قوله تعالى: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ?[البقرة:255] ما معنى ذلك؟ وهل قوله وسع لفظة مقصود بها إحاطة الأجسام بعضها ببعض فيكون كرسيه تعالى مكاناً للسماوات والأرض، أو مقصود بها إحاطة علم فيكون حيا عاقلا عالماً إذا كان جسماً حيوانيا، فهل يلزمه ما يلزم الأجسام الحيوانية الدنياوية من تغذية وغيرها كالإنسان والطير وما سوى ذلك، أو كالحيوان الدنياوي فيكون كالملائكة على رأي من يرى أن الملائكة أجسام، فيكون ملكا مقربا، أو جسما لا كالحيوان المتغذي كالشمس والقمر وما جانسهما.
الجواب: قد بينا اختلاف العلماء في العرش والكرسي على قولين، ونحن نبين معنى قوله تعالى: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ?[البقرة:255] على كل واحد منهما على وجه الاختصار.
اعلم أن من يذهب إلى أن معنى الكرسي العلم يحمل قوله تعالى: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ?[البقرة:255] على أن المراد به إحاطة علمه تفصيلا وجملة بما في السماوات والأرض، حتى [لا] يغادر منهما ولا مما فيهما ذباباً ولا نملة، فعلمه بما فوق السماوات والأرض كعلمه بما تحتهما وبما في جوفيهما، وعلمه بما جن عليه الليل كعلمه بما أشرق عليه النهار، فأتبع سبحانه التمدح بإحاطته بهما أنهما لا [يؤوده] حفظهما حفظاً؛ لأن التمدح لا يقع بحفظ ما لم يعلم، فلما أخبر أنه عالم بهما أخبر أنه حافظ لهما، ومن قوله تعالى: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ? أي علمه.
قولهم: علم فلان واسع إذا كان مستدركا للغوامض، عارفاً بالدقائق، فلما كان علمه ليس من علم المخلوقين بسبيل، وكيف وهو لا يفتقر إلى برهان ولا دليل، وطرد الآفات عليه تبارك وتقدس مستحيل، ساغ أن يقول : ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ?[البقرة:255] أي أحاط علما بالسماوات والأرض.(1/288)


وقوله سبحانه في العلم وسع وإن كان مجازا من حيث أن حقيقته في الأجسام شايع؛ لأنه سبحانه خاطب العرب بلغتهم وهم يخاطبون بالحقيقة والمجاز وذلك يقتضي بأن خطابه على طريقهم، ولأن المجاز قد ورد في خطابه على طريقتهم، ولأن المجاز قد ورد في خطابه تعالى في قوله: ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ?[يوسف:82]، والمراد أهل القرية وأهل العير؛ لأن العير الإبل وهي بهائم لا تفهم ولا تجيب، والقرية منازل وأبنية جماد والجواب منها أبعد وسؤالها لا يتوهم فثبت أن المراد واسأل أهل القرية وأهل العير. والمجاز: ما أفيد به ما لم يوضع له، وإنما استعير له ولم يسبقه إلى الإفهام بنفسه، فإذا ثبت أنه تعالى قد خاطب بالمجاز خلافاً لما تذهب إليه الحشوية فلا معنى لقول من يقول: كيف قال تعالى: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ? أي علمهما على التفصيل والجملة، والعلم لا يتوهم فيه السعة لأنا نقول خاطب بذلك سبحانه على جملة التوسع والمجاز، وخطابه بالمجاز جائز دليله ما قدمنا، فلما كان علمه بهما بحيث لا يغادر شيئاَ منهما صار كأنهما داخلان في إثباته متغلغلان في قيعانه وهو محيط بهما وحائز لهما جاز أن يتجوز في ذلك سبحانه بقوله: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ?.
وأما قوله: إذا كان المراد به إحاطة علم كان حياً عالماً عاقلاً يعني العلم، فذلك قول لا وجه له ولا خفاء بسقوطه، لأنه إذا قيل: علم فلان محيط بكذا وكذا لم يسبق إلى الأفهام ولا يخطر في الأوهام أن علمه عالم عاقل حي؛ لأن علمه عرض، والعلم والحياة والعقل مستحيلة عليه، ولأن ذلك لو جاز فيه أدى إلى التسلسل.(1/289)


فأما الباري تعالى فلا يتصور الإلزام في حقه لاستحالة كونه عالماً بعلم فيقال: هل ذلك العلم عالم أم لا؟ فلا وجه لما ذكره على كل حال، وقد بينا فيما تقدم أن الطريق إلى جسمانية العرش [والكرسي] السمع، ولا دلالة فيه تدل على أنهما حيان فيستحيل سؤاله عن التعدي وتوابعه لاستحالة الحياة.
وأما قوله سبحانه: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ?[البقرة:255] على قول من يقول: إن الكرسي جسم على ما قدمنا، فإنه يحمل قوله تعالى: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ?[البقرة:255] على حقيقته؛ لأن السماوات والأرض عنده في جنب الكرسي كما ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كحلقة ملقاة في فلاة، ولا شك في كون الفلاة واسعة للحلقة وأمثالها، وذلك تشبيه منه صلى الله عليه وآله وسلم لصغر السماوات والأرض في جنب الكرسي كالحلقة في جنب الفلاة، ولا يقتضي ذلك كون الكرسي قرار الأرض، كما أن قوله تعالى: ?كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ?[الصافات:49] على شكل البيض والاستدارة، وإنما شبههن بالبيض في الوضاءة والصقالة؛ لأن التشبيه عند العرب يقع لوجه، والخطاب بلغتهم من الله ومن رسوله، فمن هناك تشبيه الرسولً له بالفلاة في السعة والإحاطة، وهو عند من ذهب إلى أنه جسم فوق السماوات والأرض حاف من أعلاهما، وقوله سبحانه لا يفيد كونه مكانا لهما؛ لأن المكان ما يستقر عليه الكائن ولم يدل دليل على أنه كذلك، ولفظ وسع قد يستعمل فيما يحيط من الجهات العلا.(1/290)


ألا ترى أنه يقال: وسع المغفر رأس الرجل وإن كان فوقه وأمثال ذلك كثيرة، فعلى هذا ذكره تعالى للكرسي ووسعه للسماوات والأرض إبانة لقدرته وإيضاحاً لعظمته، بحيث أن الكرسي في هذا الحد من العظم والعرش فوقه في ذلك، ولم يشغله حفظهما عن حفظ السماوات والأرض، بخلاف ملوك البشر فإنه إذا اتسعت مملكته وقلت أعوانه شغلته جهة عن جهة، فأخبر تعالى أنه لا يلهيه شأن عن شأن، ولا يشغله مكان عن مكان، ولا يفتقر إلى أعوان تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فهذا هو الكلام في هذه المسألة ومن الله نستمد الهداية.(1/291)


المسألة الثامنة والأربعون [ الحكمة من خلق العرش والكرسي ]
قال تولى الله هدايته: بهذا الإجماع ونص الكتاب والأدلة النظرية أن الله عز وجل لم يخلق شيئاً عبثاً، وانتفاء العبث يوجب أنه تعالى خلق كل مخلوق أوجده لمراد مقصود على وجوب الحكمة والإتقان، فما المراد بالعرش والكرسي إن كانا أجساماً جمادية وهو تعالى منزه عن الجلوس والمكان، ولما انتفى العبث والجلوس والمكان لزم مراد غير ذلك، فما هو ذلك المراد الذي من أجله خُلِقَا وقد قال تبارك وتعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات:56]، فوجب القصد وانتفاء العبث.
الجواب: اعلم أن الواجب على المكلف أن يعلم أن الله تعالى لا يفعل فعلا إلا لحكمة تحسن، وإن لم يعرف وجب عليه التسليم ولم تلزمه المناقشة عن الوجه.
ألا ترى أنا لو هجمنا على آلة صانع قد قضينا له بالحكمة في صناعته فرأينا اختلاف تقديرها وحجومها في الصغر والكبر، والغلظ والرقة أنا نقضي أنه ما فعل شيئاً منها على ذلك الوجه إلا لغرض يخصه، وإن لم نعرف ذلك الغرض فالباري سبحانه أولى بتسليم الحكمة له، والقضاء بأنه لا يفعل إلا ما يتعلق به الصلاح، ويلازمه الحسن، وقد بينا أن الكلام في هذه المسألة لا يقع إلا مع من أثبت للعالم إلهاً قادراً عدلاً حكيماً لا يفعل فعلاً إلا لحكمة، وقد انتفى كون خلقهما عبثا، فهذا هو الكلام في هذه المسألة على وجه الجملة.
وأما الكلام على وجه التفصيل فنقول: إن المراد بخلقهما اعتبار المكلفين من الملائكة وغيرهم من المتعبدين، فاعتبار الملائكة بما يعاينوه فيهما من آثار الصنعة، ومواقع الحكمة، وطرائق القدرة، فيكونون مع ذلك أقرب إلى فعل الطاعة والانقياد للعظمة، ولا شك أن الفعل الذي يكون مقربا للمكلف من فعل الطاعة وترك المعصية حسن تحكم بحسنه العقول السوية.(1/292)

58 / 92
ع
En
A+
A-