المسألة الحادية والأربعون [ هل يلزم من قدم كلام الله قدم من كلمهم ]
قال تولى الله هدايته: ما ورد في كتابه تعالى: ?يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ?[القصص:31]، فهل يصح قدم موسى معه فيما لم يزل ليكون مخاطباً لموسى في الأزل فيكون موسى قد صح له من القدم ما صح للباري تعالى لقدم معنى قوله (يا موسى) أو حدث معناه الذي هو كلامه ليصح حدث موسى إذ قد يضطرنا التحقيق في ذلك إلى أمرين:
الأول منهما: إما قدم موسى وكلامه الذي هو معنى قديم.
الثاني: أو حدثهما معاً.
إذ لا يصح مُخَاطَب إلا ومُخاطِب، وقد ورد مصرحاً بقوله: ?وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا?[مريم:52]، فكيف يصح مكرمة من عينة معدومة الوجود وبقي التقرير والنداء؛ فإن أحدنا لو كان على انفراد عينه في فلاة ولا معه أحد سواه ينادي: يا فلان أقبل ولا تخف، ولا تخاطب وشوهد لدل ذلك منه على حكم النقض والاختلال؟.
الجواب عن ذلك يرحمك الله.
الكلام في ذلك: ما ذكره في هذه المسألة من الإلزام لازم للمجبرة القائلين بقدم القرآن، وقد دللنا على حدوثه فخرجنا من عهدة السؤال.(1/278)
ولو كان الكلام قديماً لم يتعين المعبود وكان الإله أكثر من الواحد الموجود، ولو كان قديماً لم يكن بكونه كلاماً أولى منه بكونه إله آخر تعالى عما يشركون، ودلالة نفي الثاني مانعة من وجود أكثر من قديم، فكيف يقال بوجود قديم سواه ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا?[الأنبياء:22] فبان أنما ذكره إنما يلزم على المسامحة، وهو أن يكون الباري تعالى عن ذلك غائباً بخطابه بغير موجود، وإلا فيلزمهم ما هو أعظم من ذلك عند الله، وهو أن يكون الكلام إلهاً ثانياً، ورباً متعالياً، إذا حققوا قدمه، وقالوا: لا أول لوجوده، وذلك يخرجه عن كونه كلاماً، فأما نحن فنذهب إلى أن الله تعالى لما اصطفى موسى للرسالة واجتباه بالنبوة وتلاح له بالنور من جانب الطور الأيمن في البقعة المباركة، وأوفض إليه موسى منصداً بالاقتباس جذوة أو شهاب، كما ذكر سبحانه في الكتاب، فلما جزع الوادي المقدس أحدث القديم تعالى في الشجرة كلاماً أفهم به كليمه مراده إفهاماً، وأورثه ذلك في الآخرين تبجيلاً وإكراماً، وتشريفاً وإعظاماً، فخلع النعلين، وألقى العصا، وأخرج اليد من غير سوء بيضاء، فسار إلى فرعون وملائه بتسع آيات بينات، فصار كليم الله من بين النبيين سلام الله عليهم أجمعين إذ أسمعه كلاماً لا بواسطة حي سواه، في أول ما أرسله واجتباه، وقربه وناجاه، وسائر الرسل كرم الله وجوههم، وأعلى في دار كرامته منازلهم، كان الكلام ينتهي إليهم تنزيلاً على لسان الروح الأمين - صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه الملائكة المقربين- فكانت تلك فضيلة خص الله بها موسى صلى الله عليه وهو بها جدير وذلك فضل يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم الكبير.(1/279)
المسألة الثانية والأربعون [ في كلام الله أيضاً ]
قال تولى الله هدايته: وهل إن كان محدثاً وهو معنى فقط فلا يصح إحداثه إلا في محل ويعرضه قلب أمين الوحي جبريل صلى الله عليه وإذا كان هكذا فهو كلام من قام بقلبه كالحكم في حدث الإرادة وله اختصاص بمحله لا تعدوه إلى محل آخر، وهكذا كل قائم بغيره يجري على حكم الاختصاص، فيلزم من ذلك أن معنى ما نقرؤه من القرآن ليس هو كلام الله وينتفي عن الإله تعالى حكم الاستناد في إحداثه إليه، كاستناد [ما في جميع] العالم من الأعراض إلى أنه محدثها في محالها التي لا قوام لها إلا فيها وبها يوصف كالسواد الذي صفة لمحله حتى قيل أسود،فيكون بهذا كلام البشر لا كلام الله، وفي ذلك تكذيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخروج عن الملة، أفتنا يرحمك الله.
الجواب: قد بينا فيما سبق الكلام على حدثه فلا معنى لترداد ذكره، وبينا أنه ليس بمعنى زائد على الأصوات والحروف، وما ذكره من الإلزام متفرع على أنه معنى زائد عليها وعلى أنه صفة للمتكلم وليس بفعل من أفعاله بما تقدم فلا صحة، فإذا بطل الأصل بطل الفرع تبعاً، إذ صحة الفرع مبنية على صحة أصله، وبطل الأصل الذي هو كونه معنى زائد على ما ذكرنا وكونه صفة للمتكلم، حيث بينا أنه فعل من أفعاله فيما تقدم، فلا صحة للفرع الذي فرعه عليه، وقياسه للكلام على الإرادة لا يصح؛ لأن الإرادة توجب للجملة إذا حلت في قلب الحي، وإن لم تحل أمالها في جميع أجزائه على سبيل الشياع وليس كذلك الكلام، لأنه لا يوجب للمتكلم حالاً فلو حل قلب الأمين لم يوجب له صفة كونه متكلماً، غير أن الكلام ليس بمعنى في النفس كما قدمنا، وليس مرادنا التطويل وبقية [النبأ] ينبي عن صدق البارق وإصابة النو.
وقد بينا فيما تقدم أن هذا الموجود بين أنباء كلام الله، وبينا كيفية إضافته إليه من حيث [الإنشاء] وقررنا بضرب المثال [في] المنشد والقصيدة. وهذا هو الجواب عما سألت أرشدك الله.(1/280)
المسألة الثالثة والأربعون [ هل العرش والكرسي متباينان أم متماثلان؟ ]
قال تولى الله هدايته: إن الله سبحانه [نبّأنا] في كتابه العزيز بأن له عرشاً وكرسياً بقوله: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ?[البقرة:255]، وقوله : ?وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ?[الحاقة:17]، فهل العرش هو الكرسي؟ فتكون الأسماء على واحد كالصارم والحسام أو ذاتان، وإن كانا ذاتين فهل هما متماثلان؟ أو متباينان على الإطلاق أو متماثلان من وجه ومتباينان بآخر؟ وما الذي به تماثلا؟ وما الذي به تباينا؟.
الجواب: اعلم أن أهل العلم اختلفوا في معنى العرش والكرسي، فمنهم من قال: العرش ملكه تعالى، والكرسي علمه، وهؤلاء جروا على أصل اللغة، وما فسروهما به شائع في اللغة شياعاً يغني عن الاستشهاد، ويكون قوله: ?وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ?[الحاقة:17] معناه يقوم بتدبير الملك ويتولى حساب الخلائق في موقف العرض الذي لا حكم فيه لغيره، فيكون الحمل هاهنا مجازا كما يقال: فلان يحمل ملك فلان إذا كان يلي تدبيره، ويتولى سياسته، ويقوم بصلاحه، ويتحمل أثقاله؛ والثمانية يراد بهم الملائكة عليهم السلام ويحتمل أن ثمانية أشخاص، ويحتمل أن يكون ثمانية آلاف أو ثمانية أصناف ولا مانع من ذلك، ويكون تورية الله لهم ذلك من جملة ثوابهم لما يدخل عليهم في ذلك من السرور والجذل والحبور، ولا تلحقهم سآمة، ولا يرهقهم ملل، وكيف ذلك وقد خصهم بكرامته.
ألا ترى أن كثيراً من الناس إذا تولى شيئاً من أمر السلطان يجد حالاً ومزية يستصغر عندها بذل ماله وروحه لما يجد من محبة الزلفة ولذة الكرامة، فكيف بمن لا يشبه ملوكه البشر تعالى وتقدس عن ذلك علواً كبيراً.(1/281)
وهذا التأويل مروي عن جماعة [من] أئمة آل الرسول عليهم السلام ويحملون قوله تعالى: ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?[يونس:3] على أن المراد به استولى على الملك، والاستواء بمعنى الاستيلاء كما قال البعيث شعرا:
قد استوى بشرٌ على العراق .... من غير سيف ودم مهراق
فالحمد للمهيمن الخلاق
يريد ببشر بشر بن مروان بن الحكم، وبالاستواء الاستيلاء، يريد استولى على العراق بغير طعن ولا ضرب، ومن العلماء من ذهب إلى أن العرش والكرسي خلقان من خلق الله عظيمان ساميان على السماوات السبع محيطان بها وبالأرض، وعمدتهم في ذلك ما روي عن الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما الكرسي في جنب العرش إلا كحلقة ملقاة في فلاة، وما السماوات والأرض في جنب الكرسي إلا كالكرسي في جنب العرش)) ويكون فائدة إفراده بذكر الاستيلاء عليه، وإن كان مستوليا على غيره أنه إذا قدر على العرش وملكه مع عظمه فبأن يقدر على ما دونه أولى وأحرى.(1/282)