ولهذا فإن الواحد مناّ متى تعذر عليه ما قدَّمنا من الحروف والأصوات لعارض في بعض الآلات من اللسان والحلق والشفاة؛ فإن العقلاء لا يصفونه متكلماً ويعيبون على من وصفه بذلك، وإن كان ما ذكره المعترض موجوداً في نفسه، ويقول مع ذلك: حاولت الكلام فما أمكن، فلو كان ما ذكره المعترض كلاماً لوصف الواحد بأنه متكلم في الحال التي ذكرنا ومعلوم خلافه، وما ذكره أرشده الله من كونه -أعني الكلام- الذي هو معنى على ما ذكره قائماً بذاته تعالى ثم ألزم عليه استحالة قيامه بقلوبنا مع كونه قائماً بذات الباري سبحانه وتعالى فذلك إلزام يتفرع على كون الكلام معنى قائماً بذات الباري تعالى، وكونه معنى زايداً على الأصوات والحروف باطل بما قدمنا، وكونه قائماً بذاته محال؛ لأن المعقول من القيام بالذات هو الحلول فيها، والحلول في الباري سبحانه مستحيل لأنه ليس بجسم ولا جوهر، والحلول لا يكون إلا في الأجسام والجواهر، ونحن ندين ونذهب إلى أن هذا القرآن الموجود بين أيدينا حجة لنا وعلينا هو كلام الله تعالى وخلقه وإحداثه ووحيه إلى نبيه وتنزيله، والذي يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدين بذلك ويخبر به، وهوً لا يدين إلا بالحق ولا يخبر إلا بالصدق، وتحقيق هذه الدلالة أنها مبنية على أصلين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدين بذلك ويخبر به، والثاني: أنهً لا يدين إلا بالحق ولا يخبر إلا بالصدق، فأما الذي يدل على الأول وهو أنه عليه السلام كان يدين بذلك ويخبر به فالعلم به ضروري لكل من يتبع آثاره ويعرف قصصه وأخباره، والقرآن الكريم ناطق بذلك قال الله تعالى: ?وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ?[التوبة:6].(1/273)


وأما الذي يدل على الأصل الثاني، وهو أنه عليه السلام لا يدين إلا بالحق ولا يخبر إلا بالصدق فإن ظهور المعجز على يديه قد أمَّننا أن يكون كاذباً في شيء من أخباره، لأن المعجز تصديق له والله لا يصدق لحكمته إلا الصادق، لأن تصديق الكاذب قبيح والله لا يفعل القبيح.
فهذا هو الكلام في هذه المسألة على وجه الإيجاز، وقد حصل من الأجوبة بحمد الله ومنِّه ما يحسم مواد الشبهات، وينور سدول الظلمات، لمن نظر بعين الإنصاف، وتنكَّب طريق الخلاف.(1/274)


المسألة التاسعة والثلاثون [ هل كلام الله قديم أم محدث؟ ]
قال تولى الله هدايته: هل يصح أن يكون ذلك المعنى القائم بذاته وهو كلامه الذي به وصف بأنه متكلم محدث، وهو معنى قائم بذاته فيكون تعالى موصوفاً بصفة حادثة ومحلاً لحادث، وإن كان قديماً فكيف يصح أن يكون قائماً بقلوبنا وهي محدثة، والقائم بغيره لا يصح له وجود بنفسه دون ما هو به قائم، فكيف يكون القديم [مضطراً] في وجوده إلى المحدث حتى يكون به قائماً لأن يصح وجوده والقديم سابق في وجوده؟.
الجواب: قد قدَّمنا الكلام في أنه لا يجوز أن يكون كلام الباري تعالى وكلام غيره معنى زائد على الأصوات والحروف حتى يقال: هو قائم بذاته أو بغيره، وإنما المعقول من الكلام ما ذكرنا من الأصوات المقطعة والحروف المرتبة ولا يعقل كلام سوى ذلك.
وقد بينّا أنه لا يجوز كون ذات الباري سبحانه محلاً للمعاني، وإن الكلام ليس بمعنى زائد على ما ذكرنا، وإنما قلنا لا يجوز كون ذات الباري سبحانه محلاً؛ لأن المعقول من القيام بذات الغير هو الحلول فيها، ولا يصح الحلول إلا في المتحيز، ولا يجوز أن يكون الباري تعالى متحيزاً؛ لأن ذلك يوجب حدوثه، والدلالة قائمة على وجوب قدمه وإن لزم ما ذكر فإنما يلزم المجبرة القائلين بأن كلام القديم معنى زائد على ما ذكرنا وأنه قائم بذاته، ولو أردنا التشعيب عليه فيما ذكره لفعلنا إلا أن نصرة الباطل لم توجَّه علينا.(1/275)


المسألة الأربعون [ هل ما نعرفه من كلام الله حكاية للكلام القديم القائم بالله؟ ]
قال تولى الله هدايته: وهل يصح أن يكون المعنى القائم بقلوبنا حكاية لذلك المعنى القديم القائم بذات الإله أعني كلامه الذي به وصف متكلماً وله بذاته اختصاص، والحكاية مثال على الحقيقة، والقديم لا مثال له إذ لو صح ذلك لصح في الإله؟
الجواب عن هذه المسألة على نحو الجواب عماَّ تقدم فلا وجه لتطويل الكلام؛ لأناّ قد أبطلنا فيما تقدم كون كلامه تعالى قديماً، وبيناّ أن الكلام فعله ومن حق الفاعل أن يتقدم على فعله وما يتقدمه غيره فهو محدث، وأنه لو كان الكلام [قديماً] لوجب بما يليه للباري سبحانه لمشاركته له في مقتضى صفة الذات وهي القدم، والاشتراك فيها على الوجه الذي يكشف عن المقتضى يوجب الاشتراك في المقتضى، والاشتراك فيه يوجب المماثلة، والمماثلة ترفع الكلام عن كونه صفة وكلاماً إلى كونه موصوفاً ومتكلماً وذلك يوجب كونه إلهاً ثانياً.
ودلالة الوحدانية مانعة من ذلك فبطل أن يكون الكلام قديماً، وإذا بطل كونه قديماً ثبت أنه محدث لأن القسمة في ذلك دائرة بين النفي والإثبات، وإذا كانت دائرة بينهما لم يجز دخول متوسط، وبيان أنها دائرة بينهما أن يقول: لا يخلو إما أن يكون لوجود الكلام أول أو لا يكون لوجوده أول، فإن لم يكن لوجوده أول فهو القديم وقد بطل كونه قديماً، وإن كان لوجوده أول فهو محدث واختصاصه بالباري سبحانه من حيث الإنشاء، فلذلك قلنا [هو] كلام الله دون غيره ألا ترى أنا لو سمعنا صبياً ينشد:(1/276)


(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) إلى آخرها، لعلمنا علماً لا تدفعه العقول أنها قصيدة امرؤ القيس، ولو ادعاها مدع لتنازع العقلاء العارفون أمرئ القيس وأنه أنشأها إلى تكذيبه من غير توقف، وكذلك لو سمعنا قارئاً يقرأ ب?سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى? إلى آخرها لعلم من علم نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها كلام الله تعالى ولو ادعاها مدع لجاز قتله عند الكافة من المسلمين وكان ذلك ردة؛ لأنه رد ما علم من دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة وأجمع عليه الكافة، وإن لزم ما ذكره فإنما يلزم المجبرة القائلين بقدم كلامه تعالى، ولعمري أن قولهم في ذلك وغيره مؤدي إلى جهالات وضلالات مهمة، فنسأل الله الخلاص من عمى البصيرة واضطراب السريرة.(1/277)

55 / 92
ع
En
A+
A-