المسألة السابعة والثلاثون [ كيف يوصف الله تعالى قبل الخلق بأنه رازق ونحو ذلك؟ ]
قال تولى الله هدايته: هل أن شرط كونه منعماً رازقاً فيما لم يزل ولا منعماً بالإمساك، وعدم القائل رجوع في ذلك إلى رأي من يرى أنها صفات للنفس، وأن ما كان للنفس فهو دائم موجود بوجود من هو له صفة، مع اعتقادهم رفع المجود عليه، وعند سواهم من الصفات ما يقتضي تضايفاً توجب الوجود ومعتلون عليهم بقولهم فعلى من كان منعما، وكذلك من المخلوق المنعم عليه وهي صفة تقتضي ذاتين في الوجود أحدهما خالق رازق، والآخر مخلوق مرزوق منعم عليه، ووجوب دوام الصفة واستحقاقها للنفس، وإبطال وجود المخلوق القائل يلزم أن يكون صدور الجود من الجواد إذا لم يصح مجود [عليه] غنياً، أفتينا يرحمك الله بالأدلة القاطعة على تصحيح أحد هذين المذهبين لما بينهما بالإثبات والنفي وهو أن أحدهما ينفي وجود المخلوق المرزوق فيما لم يزل، والآخر يثبته مع إجماعهما على وجوب الصفة للذات، وفي ذلك غموض مفرط وتشكيكات يتسلمها المقصر تخرجه إلى الإلحاد.
[الجواب] قد بيّنا كيفية وصفه سبحانه بهذه الصفة وأنها تفيد عند الإطلاق معنيين، وبيّنا كيفية معنى الوصف على كل واحد من المعنيين، وبينّا أن وصفه بهما على المعنى الصحيح لا يتنافى عند أهل العلم؛ لأنه إذا قيل: من رازق الأجناد؟ قيل: السلطان، وإن لم يكن رازقاً لهم في الحال، فكذلك يوصف تعالى بأنه رازق ومنعم وإن لم يكن رازقاً في الحال ومنعماً عليه، لكنه لما كان المعلوم من حاله أنه المتولي لذلك جاز وصفه بذلك بل وجب، لأن إطلاق خلافه عليه يوهم الخطأ كما قدمنا.(1/268)


وقوله: بأنها صفة من صفات الذات غير مسلم، لأن المرجع بذلك إلى خلق النعمة والمنعم عليه فكيف يقال هي ذاتية، وليس فعل الباري تعالى سبحانه صادراً على وجه الوجوب لأن ذلك يخرجه تعالى عن كونه فاعلاً؛ لأن من حق الفاعل أن يمكنه قبل فعله أن يفعل وأن لا يفعل، وبذلك ينفصل عن العلة الموجبة، وإنما يزعم ذلك قوم من الفلاسفة وليس لهم على ذلك برهان، وقد قطعت حبائلهم أدلة أهل العدل، وإيضاح ذلك يخرجنا عن الغرض وهو مقرر في مواضعه من أصول الدين، فكيف يجوز أن تكون ذاتية لأن الذاتية لا تقف على اختيار الفاعل ولا تحصل به، وفعله الذي [هو] النعمة والمنعم عليه واقف على اختياره موجود بحسب قصده وداعيه، وقد بيّنا بطلان لزوم الوجود في التضايف في المسائل الأولى التي فيها ذكر التضايف بياناً شافياً، وبينّا فساد لفظه في قوله: يوجب وجود الصفة مما ذكرنا من أنها ليست بذات فتوصف بالوجود .
وقوله: إذا قلنا: جواد فعلى من كان جائداً؟ قد أجبنا عنه حيث بينّا أنه يوصف بأنه جواد وإن لم يكن في الحال فاعلاً إذا كان المعلوم من حاله ذلك فلا معنى لنفي الوصف له سبحانه بأحد المعنيين لأجل عدم القائل.
وقوله: بأن الصفة للنفس باطل بما به أبطلنا أن تكون ذاتية؛ لأنه لا فرق بين أن نقول للنفس أو للذات، ووصفنا للباري سبحانه بأنه جواد، أولاً لا يقتضي وجود الموجود عليه والموجود به في الأزل، لأنهما لو وجدا في الأزل لكان ذلك يخرجه عن كونه جواداً لاستغنائهما عنه واستحالة العقول ووجوب التساوي للشركة في القدم، فكيف نقول قولنا جواد يقتضي ذلك أعني وجود المرزوق والرزق في الأزل، وقد خلصنا من غموض هذه التشكيكات وكشف لنا الغطاء عن وجوه المشكلات ما أمرنا الله به من التوفيق، وهدانا إليه من التحقيق، من الارتباك في حبائل الإلحاد والملحدين، وصيرنا في صف الموحدين، فله الحمد على ذلك كثيراً.
فهذه فتواك عما سألت أرشدك الله تعالى.(1/269)


المسألة الثامنة والثلاثون [ هل كلام الله صفة ذات ]
قال تولى الله هدايته: وجوب هذه الصفات الأربعة تثبت أن الموصوف بها موجود ومع وجوده فإنه متكلم بالإجماع من أهل القبلة ومن وافقهم على ذلك من أهل الكتب المنزّلة، وكونه متكلماً صفة النفس؛ وكل متكلم فلا بد له من كلام يصح عليه، سيما إجماع أهل القبلة على أن القرآن كلام الله تعالى، فهل المعنى فقط كلامه بمجرده فيكون قائماً بذاته فيما لم يزل إذ المعنى يقوم بنفسه فكل معنى قائم بذات فله بها اختصاص، والاختصاص يمنع من قيامه لعينه سواها إذ لو قام بذاتين لوقع الاشتراك، والاشتراك يبطل حكم التخصيص، وإذا كان هكذا فكيف يصح أن كلامه الذي هو ذلك المعنى لعينه هو قائم بقلوبنا وله اختصاص قيامه بذاته، ولو وجب الاشتراك لكان كلامه وكلام من هو قائم بقلبه لعينه، فلا بد أن يكون كلام الله لعينه مخصصاً؟(1/270)


الجواب عن ذلك، بالأدلة الحاسمة المانعة يرحمك الله : قد بينا كيفية استحقاقه سبحانه بما قدّمنا من الصفات الثابتة له على الوجوه التي تثبت له، وعندنا أنه تعالى متكلم وليست صفة نفس كما ذكر أرشده الله تعالى، لأن معنى المتكلم هو الفاعل بعلمه من الأصوات المقطعة والحروف المنظومة المرتبة، والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أناّ متى علمناه فاعلاً لما ذكرنا علمناه متكلماً وإن جهلنا ما جهلنا، ومتى لم نعلمه فاعلاً لما ذكرنا من الأصوات والحروف لم نعلمه متكلماً وإن علمنا ما علمنا، فثبت من كونه متكلماً ليس إلا أنه فاعل لما ذكرنا، وإذا كان ذلك كذلك لم تكن هذه الصفة من صفات النفس لأن صفة النفس لا تفتقر إلى مؤثر من علة وفاعل، وما قدَّمنا من تحقيق الكلام يفتقر إلى الفاعل، فثبت أنها أعني الصفة من صفات الفعل، وإذا كانت من صفات الفعل ومعلوم وجوب تقدم الفاعل على فعله لولا ذلك لخرج عن كونه فعلاً، وإذا كان سبحانه متقدماً على الكلام بطل ثبوته أزلاً؛ لأن ما ثبت أزلاً استحال تقدم غيره عليه، فقول من يقول بقدم الكلام قول باطل؛ فدلالة العقل والسمع مانعتان من القول بقدم الكلام.
* أما دلالة العقل فقد قدّمنا بيان ماهية المعقول من الكلام أولاً ولاشك في حدثه، ويدل على حدثه أيضاً وجود بعضه في إثر البعض، لأن المتأخر مُحدث لسبق الأول له والأول مُحْدث لانحصار الأوقات التي سبق بها الآخر لأنه لو سبقه سبقاً لا أول له لما كان كلاماً مفيداً.(1/271)


وقوله: إنه معنى قائم بنفس المتكلم قول لا برهان عليه، بل قد قضى البرهان ببطلانه لأن حقيقة الكلام ما قدَّمنا، واللغة والعرف يشهدان لنا، لأنه إذا قيل: فلان متكلم لم يسبق إلى أفهام أهل اللغة والعرف سوى ما قدمنا ذكره من أنه فاعل الأصوات المنقطعة والحروف المنظومة المرتبة إذ لو رفعوا عن أذهانهم ذلك لما عقلوا متكلماً، ولعابوا على من وصفه بذلك، ولهجّنوا قوله، فإن قيل: البشر الواحد منا يقول في نفسي كلام فثبت أنه معنى في النفس، وبطل أن يكون ما ذكرتم على وجه التوسّع والمجاز، ومراده العكس في كيفية إيجاد الكلام وترتيبه.(1/272)

54 / 92
ع
En
A+
A-